للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أولا: النفس المطمئنة (حقيقة الطمأنينة وعلامتها) :

حقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة هي أن تطمئن في باب معرفة أسماء الله وصفاته ونعوت كماله إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله فتتلقاه بالقبول، والتسليم، والإذعان، والدعاء، وانشراح الصدر له، وفرح القلب به، فإنه معرّف من معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان رسوله، فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه، وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه، فينزل ذلك عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش، فيطمئن إليه، ويسكن إليه، ويفرح به ويلين له قلبه ومفاصله حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل، بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة لعينه، فلو خالفه في ذلك من بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم، وقال إذا استوحش من الغربة قد كان الصّديق الأكبر «١» مطمئنا بالإيمان وحده وجميع أهل الأرض يخالفه وما نقص ذلك من طمأنينته شيئا فهذا أول درجات الطمأنينة، ثم لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة لصفة من صفات ربه، وهذا أمر لا نهاية له فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان التي قام عليه بناؤه، ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعدها من أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عيانا، وهذا حقيقة اليقين الذي وصف به سبحانه وتعالى أهل الإيمان حيث قال وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر الله سبحانه به عنها طمأنينته إلى الأمور التي لا يشك فيها ولا يرتاب، فهذا هو المؤمن حقا باليوم الآخر كما في حديث حارثة:

أصبحت مؤمنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟» قال: عزفت نفسي عن الدنيا وأهلها وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها وأهل النار يعذبون فيها، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «عبد نوّر الله قلبه» .

والطمأنينة إلى أسماء الرب تعالى وصفاته نوعان: طمأنينة إلى الإيمان بها وإثباتها واعتقادها، وطمأنينة إلى ما تقتضيه وتوجبه من آثار العبودية، مثاله الطمأنينة إلى القدر وإثباته، والإيمان به يقتضي الطمأنينة إلى مواضع الأقدار التي لم يؤمر العبد بدفعها ولا قدرة له على دفعها فيسلم لها ويرضى بها ولا يسخط ولا يشكو ولا يضطرب إيمانه فلا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما أتاه لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه وقبل أن يخلق كما قال تعالى ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وقال تعالى ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ قال غير واحد من السلف: هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، فهذه طمأنينة إلى أحكام الصفات وموجباتها وآثارها في العالم وهي قدر زائد على الطمأنينة بمجرد العلم بها واعتقادها، وكذلك سائر الصفات وآثارها ومتعلقاتها كالسمع والبصر والعلم والرضا والغضب والمحبة، فهذه طمأنينة الإيمان «٢» .


(١) المراد به سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(٢) انظر صفة الطمأنينة بالموسوعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>