للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما طمأنينة الإحسان فهي الطمأنينة إلى أمره امتثالا وإخلاصا ونصحا فلا يقدم على أمره إرادة ولا هوى ولا تقليدا فلا يساكن شبهة تعارض خبره ولا شهوة تعارض أمره بل إذا مرت به أنزلها منزلة الوساوس التي لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يجدها، فهذا كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم صريح الإيمان، وعلامة هذه الطمأنينة أن يطمئن من قلق المعصية وانزعاجها إلى سكون التوبة وحلاوتها وفرحتها ويسهل عليه ذلك أن يعلم أن اللذة والحلاوة والفرحة في الظفر بالتوبة، وهذا أمر لا يعرفه إلّا من ذاق الأمرين وباشر قلبه آثارهما فللتوبة طمأنينة تقابل ما في المعصية من الانزعاج والقلق ولو فتش العاصي عن قلبه لوجد حشوه المخاوف والانزعاج والقلق والاضطراب وإنما يواري عنه شهود ذلك سكر الغفلة والشهوة فإن لكل شهوة سكرا يزيد على سكر الخمر، وكذلك الغضب له سكر أعظم من سكر الشراب، ولهذا ترى العاشق والغضبان يفعل ما لا يفعله شارب الخمر، وكذلك يطمئن من قلق الغفلة والإعراض إلى سكون الإقبال على الله وحلاوة ذكره وتعلّق الروح بحبه ومعرفته فلا طمأنينة للروح بدون هذا أبدا «١» .

[النفس المطمئنة وفرح القلب]

الفرق بين فرح القلب وفرح النفس ظاهر فإن الفرح بالله ومعرفته ومحبته وكلامه من القلب قال تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فإذا كان أهل الكتاب يفرحون بالوحي فأولياء الله وأتباع رسوله أحق بالفرح به وقال تعالى: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وقال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ قال أبو سعيد الخدري:

فضل الله: هو القرآن، ورحمته: أن جعلكم من أهله «٢» وقال هلال بن يساف: فضل الله ورحمته: الإسلام الذي هداكم إليه والقرآن الذي علّمكم وهو خير من الذهب والفضة الذين تجمعون، وقال ابن عباس والحسن وقتادة وجمهور المفسرين فضل الله الإسلام ورحمته القرآن، فهذا فرح القلب وهو من الإيمان ويثاب عليه العبد فإن فرحه به يدل على رضاه به بل بما هو فوق الرضا فالفرح بذلك على قدر محبته فإن الفرح إنما يكون بالظفر بالمحبوب وعلى قدر محبته يفرح بحصوله له فالفرح بالله وأسمائه وصفاته ورسوله وسنته وكلامه محض الإيمان وصفوته لبه وله عبودية عجيبة وأثر في القلب لا يعبّر عنه، فابتهاج القلب وسروره وفرحه بالله وأسمائه وصفاته وكلامه ورسوله ولقائه أفضل ما يعطاه بل هو جل عطاياه، والفرح في الآخرة بالله ولقائه بحسب الفرح به ومحبته في الدنيا، فالفرح بالوصول إلى المحبوب يكون على حسب قوة المحبة وضعفها، فهذا شأن فرح القلب، وله فرح آخر وهو فرحه بما منّ الله به عليه من معاملته والإخلاص له والتوكل عليه والثقة به وخوفه ورجائه به. وكلما تمكّن في ذلك قوي فرحه وابتهاجه، وله فرحة أخرى عظيمة الوقع عجيبة الشأن وهي الفرحة التي تحصل له بالتوبة فإن لها فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة، فلو علم العاصي أن لذة التوبة وفرحتها يزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافا مضاعفة لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية.


(١) الروح لابن القيم، ص ٢٠٠.
(٢) يشير- رحمه الله تعالى- بذلك إلى تفسير الفضل والرحمة في الآية الكريمة: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ....

<<  <  ج: ص:  >  >>