للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقول أيّوب عليه السّلام مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (الأنبياء/ ٨٣) . ولم يقل «فعافني وأشفني» .

وقول يوسف لأبيه وإخوته هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ (يوسف/ ١٠٠) . ولم يقل «أخرجني من الجبّ» حفظا للأدب مع إخوته، وتفتّيا عليهم أن لا يخجلهم بما جرى فى الجبّ. وقال: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ولم يقل «رفع عنكم جهد الجوع والحاجة» أدبا معهم. وأضاف ما جرى إلى السّبب، ولم يضفه إلى المباشر الّذي هو أقرب إليه منه، فقال مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي فأعطى الفتوّة والكرم والأدب حقّه. ولهذا لم يكن كمال هذا الخلق إلّا للرّسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.

ومن هذا أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الرّجل «أن يستر عورته، وإن كان خاليا لا يراه أحد. أدبا مع الله، على حسب القرب منه، وتعظيمه وإجلاله، وشدّة الحياء منه، ومعرفة وقاره.

وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهرا وباطنا، فما أساء أحد الأدب في الظّاهر إلّا عوقب ظاهرا، وما أساء أحد الأدب باطنا إلّا عوقب باطنا.

وقال عبد الله بن المبارك- رحمه الله-: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السّنن. ومن تهاون بالسّنن عوقب بحرمان الفرائض. ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة.

وقيل: الأدب في العمل علامة قبول العمل.

والمقصود أنّ الأدب مع الله تعالى: هو القيام بدينه، والتّأدّب بآدابه، ظاهرا وباطنا.

ولا يستقيم لأحد قطّ الأدب مع الله تعالى إلّا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه وما يحبّ وما يكره، ونفس مستعدّة قابلة ليّنة متهيّئة لقبول الحقّ علما وعملا وحالا» .

من الأدب مع الله التّأدّب مع القرآن وتلاوته وتدبّره أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (محمد/ ٢٢) لأنّ في ذلك العلم والمعرفة بما أمر به الله عزّ وجلّ ونهى عنه وتعظيم شعائره وعدم انتهاك محارمه. كذلك فإنّه أفضل السّبل وأقربها إلى الثّراء الرّوحيّ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الأنفال/ ٢) .

ومن الأدب مع الله التّوجّه إليه سبحانه بالدّعاء، قال تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (الفرقان/ ٧٧) .

ودعا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الاستعانة بالله عزّ وجلّ، واستعان به قائلا «اللهمّ أعنّي على شكرك وذكرك وحسن عبادتك» ، ومنه أيضا الثّناء عليه وتسبيحه وشكره على آلائه العظيمة وهو القائل عزّ وجلّ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ومنه التّوسّل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا والاستعاذة والاستغفار والاستعانة به والتّضرّع إليه والتّوكّل عليه في جميع أمورنا.


(١) مدارج السالكين (٣٩١- ٤٠٢) بتصرف.