للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والندامة وفي حفظه وعمارته الربح والسعادة فيشح بأنفاسه أن يضيعها فيما لا ينفعه يوم معاده.

ثم يلحظ في ضوء تلك البارقة ما تقتضيه يقظته من سنة غفلته من التوبة والمحاسبة والمراقبة والغيرة لربه أن يؤثر عليه غيره، وعلى حظه من رضاه وقربه وكرامته ببيعه بثمن بخس في دار سريعة الزوال وعلى نفسه أن يملك رقها لمعشوق أو فكر في منتهى حسنه ورأى آخره بعين بصيرة لأنف لها من محبته.

فهذا كله من آثار اليقظة وموجباتها وهي أول منازل النفس المطمئنة التي نشأ منها سفرها إلى الله والدار الآخرة.

[ثانيا: النفس اللوامة]

وأما النفس اللوامة وهي التي أقسم بها سبحانه في قوله وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ فاختلف فيها فقالت طائفة: هي التي لا تثبت على حال واحدة، أخذوا اللفظة من التلوّم وهو التردد فهي كثيرة التقلب والتلون وهي من أعظم آيات الله فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة فضلا عن اليوم والشهر والعام والعمر ألوانا متلونة فتذكر وتغفل، وتقبل وتعرض، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتعصى، وتتقي وتفجر، إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها فهي تتلون كل وقت ألوانا كثيرة فهذا قول.

وقالت طائفة: اللفظة مأخوذة من اللّوم ثم اختلفوا فقالت فرقة هي نفس المؤمن وهذا من صفاتها المجردة، قال الحسن البصري: إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائما يقول ما أردت بهذا؟ لم فعلت هذا؟ كان غير هذا أولى أو نحو هذا الكلام.

وقال غيره: هي نفس المؤمن توقعه في الذنب ثم تلومه عليه فهذا اللوم من الإيمان بخلاف الشقي فإنه لا يلوم نفسه على ذنب بل يلومها وتلومه على فواته.

وقالت طائفة بل هذا اللوم للنوعين فإن كل أحد يلوم نفسه برا كان أو فاجرا فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته والشقي لا يلومها إلّا على فوات حظها وهواها.

وقالت فرقة أخرى هذا اللوم يوم القيامة فإن كل أحد يلوم نفسه إن كان مسيئا على إساءته وإن كان محسنا على تقصيره.

وهذه الأقوال كلها حق، ولا تنافى بينها، فإن النفس موصوفة بهذا كله وباعتباره سميت لوامة، ولكن اللوامة نوعان: لوامة ملومة، وهي النفس الجاهلة الظالمة التي يلومها الله وملائكته.

ولوامة غير ملومة، وهي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده فهذه غير ملومة، وأشرف النفوس من لامت نفسها في طاعة الله واحتملت ملام اللائمين في مرضاته فلا تأخذها فيه لومة لائم فهذه قد تخلصت من لوم الله، وأما من رضيت بأعمالها ولم تلم نفسها، فهي التي يلومها الله عز وجل «١» .


(١) باختصار وتصرف يسير عن «الروح لابن القيم» ص ٢٠٣، ٢٠٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>