للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الخير فالرفق شيء والتواني والكسل شيء فإن المتواني يتثاقل عن مصلحته بعد إمكانها فيتقاعد عنها، والرفيق يتلطف في تحصيلها بحسب الإمكان مع المطاوعة. وكذلك المداراة صفة مدح والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليقره على باطله ويتركه على هواه فالمداراة لأهل الإيمان والمداهنة لأهل النفاق، وقد ضرب لذلك مثل مطابق وهو حال رجل به قرحة قد آلمته فجاءه الطبيب المداوي الرفيق فتعرف حالها ثم أخذ في تليينها حتى إذا نضجت أخذ في بطها (شقها) برفق وسهولة، حتى أخرج ما فيها، ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فساد الجرح ويقطع مادته، ثم تابع عليها بالمراهم التي تنبت اللحم ثم يذر عليها بعد نبات اللحم ما ينشف رطوبتها ثم يشد عليها الرباط، ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت، والمداهن قال لصاحبها لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء فاسترها عن العيوب بخرقة ثم اله عنها، فلا تزال مدتها تقوى وتستحكم حتى عظم فسادها، وهذا المثل أيضا مطابق كل المطابقة لحال النفس الأمارة مع المطمئنة فتأمله، فإذا كانت هذه حال قرحة بقدر الحمصة، فكيف بسقم هاج من نفس أمارة بالسوء، هي معدن الشهوات ومأوى كل فسق وقد قارنها شيطان في غاية المكر والخداع يعدها ويمنيها ويسحرها بجميع أنواع السحر حتى يخيل إليها النافع ضارا والضار نافعا والحسن قبيحا والقبيح جميلا، وهذا لعمرو الله من أعظم أنواع السحر ولهذا يقول سبحانه فَأَنَّى تُسْحَرُونَ والذي نسبوا إليه الرسل من كونهم مسحورين هو الذي أصابهم بعينه، وهم أهله لا رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما أنهم نسبوهم إلى الضلال والفساد في الأرض والجنون والسفه وما استعاذت الأنبياء والرسل وأمراء الأمم بالاستعاذة من شر النفس الأمّارة وصاحبها وقرينها الشيطان إلّا لأنهما أصل كل شر وقاعدته ومنبعه وهما متساعدان عليه متعاونان «١» .

[فضيلة الاستعاذة من شر النفس الأمارة وقرينها]

قال الله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وقال وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وقال وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ وقال تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ... قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ... فهذا استعاذة من قرينها وصاحبها وبئس القرين والصاحب، فأمر الله سبحانه نبيه وأتباعه بالاستعاذة بربوبيته التامة الكاملة من هاتين الخلتين العظيم شأنهما في الشر والفساد، والقلب بين هذين العدوين، لا يزال شرهما يطرقه وينتابه، وأول ما يدب فيه السقم من النفس الأمّارة من الشهوة وما يتبعها من الحب والحرص والطلب والغضب وما يتبعه من الكبر والحسد والظلم والتسلط يعلم الطبيب الغاش الخائن بمرضه فيعوده ويصف له أنواع للسموم والمؤذيات ويخيل إليه بسحره أن شفاءه فيها، ويتفق ضعف القلب بالمرض وقوة النفس الأمارة والشيطان ويتتابع إمدادهما، ويزينان له أن هذا نقد حاضر ولذة عاجلة، والداعي إليه يدعو من كل ناحية، والهوى ينفذ، والشهوة تهون، والتأسي بالأكثر والتشبه بهم والرضا بأن يصيبه ما أصابهم، فكيف يستجيب مع هذه القواطع وأضعافها لداعي الإيمان ومنادي الجنة إلّا من أمده الله بإمداد التوفيق وأيده برحمته وتولى حفظه وحمايته وفتح بصيرة قلبه فرأى سرعة انقطاع الدنيا وزوالها وتقلبها بأهلها وفعلها بهم وأنها في الحياة الدائمة كغمس أصبع في البحر بالنسبة إليه.


(١) الروح لابن القيم، ص ٢٠٨، ٢٠٩ (بتصرف واختصار يسير) .

<<  <  ج: ص:  >  >>