للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العذاب بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم فما ظنك بسائرها؟ ولكون هذا الماضي لمكان إذا مستقبلا حسن العطف، وفيه أن مآل هذه الجملة الكذب كما أشير إليه فلا تغاير سابقها ولو سلم التغاير بالاعتبار وضم القيود فهي جزء الصلة أو الصفة وكلاهما يقتضي عدم الاستقلال، وأيضا كون ذلك الكذب أدنى أحوالهم لا يقبل عند من له أدنى عقل على أن تخلل البيان والاستئناف وإن لم يكن أجنبيا بين أجزاء الصلة أو الصفة لا يخلو عن استهجان فالذي أميل إليه وأعول دون هذين الأمرين عليه ما اختاره المدقق في الكشف، وقريب منه كلام أبي حيان في البحر أنها معطوفة على قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لبيان حالهم في ادعاء الإيمان وكذبهم فيه أولا ثم بيان حالهم في انهماكهم في باطلهم ورؤية القبيح حسنا والفساد صلاحا ثانيا، ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال وإن لزم فيه عطف الفعلية على الاسمية فهو أرجح بحسب السياق ونمط تعديد القبائح، وما قيل عليه إنه ليس مما يعتد به وإن توهم كونه أو في بتأدية هذه المعاني وذلك لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر التي فيها إليهم- كما يشهد به سلامة الفطرة لمن له أدنى دربة بأساليب الكلام- كلام خارج عن دائرة الإنصاف كما يشهد به سلامة الفطرة من داء التعصب والاعتساف فإن عود الضمائر رابط للصفات بهم وسوق الكلام مناد عليه، وقد يأتي في القصة الواحدة جملة مستأنفة بغير عطف فإذا لم ينافه الاستئناف رأسا كيف ينافيه العطف على أوله المستأنف، والعطف إنما يقتضي مغايرة الأحوال لا مغايرة القصص وأصحابها وما أخرجه ابن جرير عن سلمان رضي الله تعالى عنه- من أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد- ليس المراد به أنها مخصوصة بقوم آخرين كما يشعر به الظاهر بل إنها لا تختص بمن كان من المنافقين وإن نزلت فيهم إذ خصوص السبب لا ينافي عموم النظم. ثم القائل للمنافقين في عصر النزول هذا القول إما النبي صلّى الله عليه وسلّم تبليغا عن الله سبحانه المخبر له بنفاقهم أو أنه عليه الصلاة والسلام بلغه عنهم ذلك ولم يقطع به فنصحهم فأجابوه بما أجابوه أو بعض المؤمنين الظانين بهم المتفرسين بنور الإيمان فيهم أو بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله منهم لأمر ما فينقلب واعظا لهم قائلا لا تُفْسِدُوا، والفساد التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة ونقيضه الصلاح، والمعنى لا تفعلوا ما يؤدي إلى الفساد- وهو هنا الكفر كما قاله ابن عباس- أو المعاصي- كما قاله أبو العالية- أو النفاق الذي صافوا به الكفار فأطلعوهم على أسرار المؤمنين فإن كل ذلك يؤدي- ولو بالوسائط- إلى خراب الأرض وقلة الخير ونزع البركة وتعطل المنافع، وإذا كان القائل بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله ممن شاركهم في الكفر يحمل الفساد على هيج الحروب والفتن الموجب لانتفاء الاستقامة ومشغولية الناس بعضهم ببعض فيهلك الحرث والنسل. ولعل النهي عن ذلك لخور أو تأمل في العاقبة وإراحة النفس عما ضرره أكبر من نفعه مما تميل إليه الحذاق. على أن في أذهان كثير من الكفار إذ ذاك توقع ما يغني عن القتال من وقوع مكروه بالمؤمنين وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: ٣٢] ، ولا يخفى ما في هذا الوجه من التكلف والمراد من- الأرض- جنسها أو المدينة المنورة، والحمل على جميع الأرض ليس بشيء إذ تعريف المفرد يفيد استيعاب الأفراد لا الأجزاء، اللهم إلا أن يعتبر كل بقعة أرضا، لكن يبقى أنه لا معنى للحمل على الاستغراق باعتبار تحقق الحكم في فرد واحد وليس ذكر الأرض لمجرد التأكيد بل في ذلك تنبيه على أن الفساد واقع في دار مملوكة لمنعم أسكنكم بها وخولكم بنعمها.

وأقبح خلق الله من بات عاصيا ... لمن بات في نعمائه يتقلب

وإنما للحصر كما جرى عليه بعض النحويين وأهل الأصول، واختار في البحر أن الحصر يفهم من السياق ولم تدل عليه وضعا، وجعل القول بكونها مركبة من «ما» النافية دخل عليها «أن» التي للإثبات فأفادت الحصر قولا ركيكا

<<  <  ج: ص:  >  >>