للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والنبوة، والمعاد. وبهذا ترتبط الآية بما قبلها- كما قال الإمام- وأولى منه ما قيل: إنه سبحانه (١) شأن القرآن العظيم وأنه نعمة جليلة منه تعالى على كافة الأمم حسبما نطق به قوله عز وجل: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:

١٠٧] عقب ذلك ببيان غمطهم إياها وكفرهم بها على وجه سرى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية وأصل القدر معرفة المقدار بالسبر ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه، وقال الواحدي: يقال قدر الشيء إذا سبره وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدرا،

وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن غم عليكم فاقدروا له»

أي فاطلبوا أن تعرفوه، ثم قيل: لمن عرف شيئا هو يقدر قدره وإذا لم يعرفه بصفاته إنه لا يقدر قدره.

واختلف التفسير هنا. فعن الأخفش أن المعنى ما عرفوا الله تعالى حَقَّ قَدْرِهِ أي حق معرفته. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما عظموا الله تعالى حق تعظيمه. وقال أبو العالية: ما وصفوه حق صفته والكل محتمل.

واختار بعض المحققين ما عليه الأخفش لأنه الأوفق بالمقام أي ما عرفوه سبحانه معرفته الحق في اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى في ذلك بل أخلوا بها إخلالا عظيما إِذْ قالُوا منكرين لبعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام وإنزال الكتب كافرين بنعمه الجليلة فيهما أو ما عرفوه جل شأنه حق معرفته في السخط على الكفار وشدة بطشه بهم حين اجترءوا على إنكار ذلك بقولهم: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ أي شيئا من الأشياء فمن للتأكيد ونصب حَقَّ على المصدرية وهو- كما قال أبو البقاء- في الأصل صفة للمصدر أي قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه. وإِذْ ظرف (٢) للزمان الزمان وهل فيها معنى العلة هنا أم لا؟ احتمالان، وأبو البقاء يعلقها بقدروا وليس بالمتعين. وقرىء «قدره» بفتح الدال.

واختلف في قائلي ذلك القول الشنيع، فأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أنهم مشركو قريش. والجمهور على أنهم اليهود ومرادهم من ذلك الطعن في رسالته صلّى الله عليه وسلّم على سبيل المبالغة فقيل لهم على سبيل الإلزام: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى فإن المراد أنه تعالى قد أنزل التوراة على موسى عليه السلام ولا سبيل لكم إلى إنكار ذلك فلم لا تجوزون إنزال القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم وبهذا ينحل استشكال ما عليه الجمهور بأن اليهود يقولون إن التوراة كتاب الله تعالى أنزله على موسى عليه السلام فكيف يقولون: «ما أنزل الله على بشر من شيء» وحاصل ذلك أنهم أبرزوا إنزال القرآن عليه عليه الصلاة والسلام في صورة الممتنعات حتى بالغوا في إنكاره فألزموا بتجويزه، وقيل:

إن صدور هذا القول كان عن غضب وذهول عن حقيقته،

فقد أخرج ابن جرير والطبراني عن سعيد بن جبير أن مالك ابن الصيف من أحبار اليهود (٣) قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنشدك الله تعالى الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود فضحك القوم فغضب فالتفت إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له قومه: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ قال:

إنه أغضبني فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف فأنزل الله تعالى هذه الآية،

واعترض بأن هذا لا يلائم الإلزام بإنزال التوراة على موسى عليه السلام فقد اعترف القائل بأنه إنما صدر ذلك عنه من الغضب فليفهم. ولا يرد أن هذه السورة مكية والمناظرات التي وقعت بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين اليهود كلها مدنية فلا يتأتى القول بأن الآية نزلت في اليهود


(١) قوله «سبحانه شأن القرآن كذا بخطه وتأمله.
(٢) قوله للزمان الزمان كذا يخطه ولعله للزمان الماضي. وجل من لا يسبق قلمه.
(٣) قوله قال لرسول إلخ كذا بخطه ولعل الاولى قال له رسول الله إلخ.

<<  <  ج: ص:  >  >>