للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنت تعلم أن من الناس من يقول: إن كل شيء من العلويات والسفليات حي حياة لائقة به وهم الذين ذهبوا إلى أن تسبيح الأشياء المفاد بقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤] قالي لا حالي، وإذا قيل بذلك فلا بد من تخصيص الشيء أيضا إذا لم يجعل من الماء كل شيء حيا ولم أقف على مخالف في ذلك منا، نعم نقل عن ثالس الملطي وهو أول من تفلسف بملطية أن أصل الموجودات الماء حيث قال: الماء قابل كل صورة ومنه أبدعت الجواهر كلها من السماء والأرض انتهى.

ويمكن تخريجه على مشرب صوفي بأن يقال إنه أراد بالماء الوجود الانبساطي المعبر عنه في اصطلاح الصوفية بالنفس الرحماني، وحينئذ لو جعلت الإشارة في الآية إلى ذلك عندهم لم يبعد أَفَلا يُؤْمِنُونَ إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الإنكار أي أيعلمون ذلك فلا يؤمنون وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت جمع راسية من رسا الشيء إذا ثبت ورسخ، ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مما لا ريب في صحته أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي كراهة أن تتحرك وتضطرب بهم أو لئلا تميد فحذف اللام ولا لعدم الإلباس، وهذا مذهب الكوفيين والأول أولى، وفي الانتصاف أولى من هذين الوجهين أن يكون مثل قولك أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط على ما قال سيبويه من أن معناه أن أدعم الحائط بها إذا مال، وقدم ذكر الميد عناية بأمره ولأنه السبب في الادعام والادعام سبب إعداد الخشبة فعومل سبب السبب معاملة السبب فكذا فيما نحن فيه يكون الأصل وجعلنا في الأرض رواسي أن نثبتها إذا مادت بهم فجعل الميد هو السبب كما جعل الميل في المثال سببا وصار الكلام وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم فنثبتها ثم حذف فنثبتها لأمن الإلباس إيجازا، وهذا أقرب إلى الواقع مما ذكر أولا فإن مقتضاه أن لا تميد الأرض بأهلها لأن الله تعالى كره ذلك ومحال أن يقع ما يكرهه سبحانه والمشاهدة بخلافه فكم من زلزلة أمادت الأرض حتى كادت تنقلب وعلى ما ذكرنا يكون المراد أن الله تعالى يثبت الأرض بالجبال إذا مادت، وهذا لا يأبى وقوع الميد لكنه ميد يستعقبه التثبيت، وكذلك الواقع من الزلزال إنما هو كاللمحة ثم يثبتها الله تعالى انتهى.

وفي الكشف أن قولهم كراهة أن تميد بيان للمعنى لا أن هناك إضمار البتة ولهذا كان مذهب الكوفيين خليقا بالرد، وما في الانتصاف من أن الأولى أن يكون من باب أعددت الخشبة أن يميل الحائط على ما قرر راجع إلى ما ذكرناه ولا مخالف له، أما ما ذكره من الرد بمخالفة الواقع المشاهد فليس بالوجه لأن ميدودة الأرض غير كائنة البتة وليست هذه الزلازل منها في شيء انتهى، وهو كلام رصين كما لا يخفى، وقد طعن بعض الكفرة المعاصرين فيما دلت عليه الآية الكريمة بأن الأرض لطلبها المركز طبعا ساكنة لا يتصور فيها الميد ولو لم يكن فيها الجبال. وأجيب أولا بعد الإغماض عما في دعوى طلبها المركز طبعا وسكونها عنده من القيل والقال يجوز أن يكون الله تعالى قد خلق الأرض يوم خلقها عرية عن الجبال مختلفة الأجزاء ثقلا وخفة اختلافا تاما أو عرض لها الاختلاف المذكور ومع هذا لم يجعل سبحانه لمجموعها من الثقل ما لا يظهر بالنسبة إليه ثقل ما علم جل وعلا أنه يتحرك عليها من الأجسام الثقيلة فيكون لها مركزان متغايران مركز حجم ومركز ثقل وهي إنما تطلب بطبعها عندهم أن ينطبق مركز ثقلها على مركز العالم وذلك وإن اقتضى سكونها إلا أنه يلزم أن تتحرك بتحرك هاتيك الأجسام فخلق جل جلاله الجبال فيها ليحصل لها من الثقل ما لا يظهر معه ثقل المتحرك فلا تتحرك بتحركه أصلا، وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال إلى قطرها كنسبة سبع عرض شعيرة إلى ذراع إنما ينفع في أمر الكرية الحسية وأما أنه يلزم منه أن لا يكون لمجموع الجبال ثقل معتد به بالنسبة إلى ثقل الأرض فلا.

<<  <  ج: ص:  >  >>