للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة قتالا خفيفا بالرمي بالسهام والحجارة، فاتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه فكرهوا أن يقاتلوهم لحرمته. فقيل: هذا الشَّهْرُ الْحَرامُ بذلك، وهتكه بهتكه فلا تبالوا به وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي الأمور التي يجب أن يحافظ عليها ذوات قِصاصٌ أو مقاصة، وهو متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق، كأنه قيل: لا تبالوا بدخولكم عليه عنوة، وهتك حرمة هذا الشهر ابتداء بالغلبة، فإن الْحُرُماتُ يجري فيها- القصاص- فالصد قصاصه العنوة فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فذلكة لما تقدمه، وهو أخص مفادا منه لأن الأول يشمل ما إذا هتك حرمة الإحرام والصيد والحشيش مثلا بخلاف هذا، وفيه تأكيد لقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ولا ينافي ذلك فذلكيته معطوفا- بالفاء- والأمر للإباحة- إذ العفو جائز- و «من» تحتمل الشرطية والموصولية، وعلى الثاني تكون- الفاء- صلة في الخبر- والباء- تحتمل الزيادة وعدمها، واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح واستدل بها أيضا على أن من غصب شيئا وأتلفه يلزمه رد مثله، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة- كما في ذوات الأمثال- وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له وَاتَّقُوا اللَّهَ في الانتصار لأنفسكم وترك الاعتداء بما لم يرخص لكم فيه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالنصر والعون وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عطف على قاتلوا أي وليكن منكم إنفاق ما في سبيله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ بترك الغزو والإنفاق فيه، فهو متعلق بمجموع المعطوف والمعطوف عليه نهيا عن ضدهما تأكيدا لهما، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد- عن أبي عمران- قال: كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم، فقال الناس: ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معاشر الأنصار، إنا لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله تعالى قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ما يرد علينا ما قلنا وَأَنْفِقُوا إلخ، فكانت التَّهْلُكَةِ الإقامة في الأموال وإصلاحها، وترك الغزو. وقال الجبائي: التَّهْلُكَةِ الإسراف في الإنفاق، فالمراد بالآية النهي عنه بعد الأمر بالإنفاق تحريا للطريق الوسط بين الإفراط والتفريط فيه، وروى البيهقي في الشعب- عن الحسن- أنها البخل لأنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد فيكون النهي مؤكدا للأمر السابق، واختار البلخي أنها اقتحام الحرب من غير مبالاة، وإيقاع النفس في الخطر والهلاك، فيكون الكلام متعلقا ب قاتِلُوا نهيا عن الإفراط والتفريط في الشجاعة، وأخرج سفيان بن عيينة.

وجماعة عن البراء بن عازب أنه قيل له: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ هو الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يقتل، قال: لا، ولكن هو الرجل يذنب الذنب فيلقي بيديه فيقول: لا يغفر الله تعالى لي أبدا- وروي مثله عن عبيدة السلماني- وعليه يكون متعلقا بقوله سبحانه: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهو في غاية البعد، ولم أر من صحح الخبر عن البراء رضي الله تعالى عنه سوى الحاكم- وتصحيحه لا يوثق به- وظاهر اللفظ العموم- والإلقاء- تصيير الشيء إلى جهة السفل وألقى عليه مسألة مجاز، ويقال لكل من أخذ في عمل ألقى يديه إليه وفيه، ومنه قول لبيد في الشمس:

حتى إذا «ألقت» يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها

وعدي- بإلى- لتضمنه معنى الإفضاء أو الإنهاء- والباء- مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي، لأن- ألقى- يتعدى بنفسه كما في فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ [الشعراء: ٤٥] وزيادتها في المفعول لا تنقاس، والمراد- بالأيدي-

<<  <  ج: ص:  >  >>