للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يكون لجميع الناس على سبيل التغليب فالمراد بإيثارها إنما هو أعم مما ذكر وما لا يخلو عنه الناس غالبا من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادئ. وعن ابن مسعود ما يقتضيه والالتفات على الأول لتشديد التوبيخ وعلى الثاني. كذلك في حق الكفرة ولتشديد العتاب في حق المسلمين، وقيل لا التفات لأنه بتقدير قل. وقرأ عبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم «يؤثرون» بياء الغيبة وقوله تعالى وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى حال من فاعل تؤثرون مؤكدة للتوبيخ والعتاب أي تؤثرونها على الآخرة والحال أن الآخرة خير في نفسها لما أن نعيمها مع كونه في غاية ما يكون من اللذة خالص عن شائبة الغائلة أبدي لا انصرام له، وعدم التعرض لبيان تكدر نعيم الدنيا بالمنغصات وانقطاعه عما قليل لغاية الظهور إِنَّ هذا إشارة على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد إلى قوله تعالى وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى وروي ذلك عن قتادة. وقال غير واحد: إشارة إلى ما ذكر من قوله سبحانه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث ما يشهد له. وقال الضحاك: إشارة إلى القرآن فالآية كقوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: ١٩٦] وعن ابن عباس وعكرمة والسدّي إشارة إلى ما تضمنته السور جميعا وفيه بعد لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى أي ثابت فيها معناه. وقرأ الأعمش وهارون وعصمة كلاهما عن أبي عمرو بسكون الحاء وكذا فيما بعد وهي لغة تميم على ما في اللوامح صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى بدل من الصُّحُفِ الْأُولى وفي إبهامها ووصفها بالقدم ثم بيانها وتفسيرها من تفخيم شأنها ما لا يخفى، وكانت صحف إبراهيم عشرة وكذا موسى صحف عليه السلام، والمراد بها ما عدا التوراة

أخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ قال: «مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان» . قلت: يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «أمثال كلها أيها الملك المتسلط على المبتلى المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه ويتذكر فيما صنع وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال فإن في هذه الساعة عونا لتلك الساعات واجتماعا للقلوب وتفريغا لها، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه فإن من حسب كلامه من عمله أقل الكلام إلّا فيما يعنيه، وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث مرمة لمعاش أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير محرم» . قلت: يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال: «كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح، ولمن أيقن بالنار ثم يضحك، ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها، ولمن أبقى بالقدر ثم يغضب ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل» . قلت يا رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال:

«يا أبا ذر نعم قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى»

والله تعالى أعلم بصحة الحديث. وقرأ أبو رجاء «إبرهم» بحذف الألف والياء وبالهاء مفتوحة ومكسورة وعبد الرحمن ابن أبي بكرة بكسرها لا غير. وقرأ أبو موسى الأشعري وابن الزبير «ابراهام» بألفين في كل القرآن. وقرأ مالك بن دينار «ابراهم» بألف وفتح الهاء وبغير ياء. وجاء كما قال ابن خالويه «إبرهم» بضم الهاء بلا ألف ولا ياء وهذا من تصرفات العرب في الأسماء الأعجمية فإن إبراهيم على الصحيح منها. وحكى الكرماني في عجائبه أنه اسم عربي مشتق من البرهمة وهي شدة النظر ونسبه قد تقدم وكذا نسب موسى صلّى الله عليه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>