للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مقرا الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه هذا من اعتقاده بشريعته وهذا من اعتقاده بأصنامه، وحاصله أنه اتصلت مودتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا أي من المشركين وانفصل بعضهم من بعض فقال كل ما يدل عنده على صحة قوله إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وكان يقتضي عند مجيئها أن يجتمعوا على اتباعها ولا يخفى أن قوله (بل كان كل منهم) إلخ في حيّز المنع. وأيضا حمل وَما تَفَرَّقَ على ما حمله عليه غير ظاهر. وقال ابن عطية: هاهنا وجه بارع المعنى وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره سبحانه حتى يبعث عز وجل إليهم رسولا منذرا يقيم تعالى عليهم به الحجة ويتم على من آمن به النعمة فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى ولهذا نظائر في كتاب الله جل جلاله هذا ما ظفرنا به سؤالا وجوابا وجرحا وتعديلا. ثم إني أقول ما تقدم في تقرير الإشكال مبني على مذهب القائلين بمفهوم الغاية وهم أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم دون مذهب الغير القائلين به وهم أصحاب الإمام أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء والمتكلمين، واختاره الآمدي واستدل عليه بما استدل ورد ما يعارضه من أدلة المخالف وعليه يمكن أن يقال إنه سبحانه وتعالى بيّن أولا حال الذين كفروا من الفريقين إلى وقت إتيان الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله عز وجل لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ أي عما هم عليه من الدين حسب اعتقادهم فيه إلى أن يأتيهم الرسول، ولما لم يتعرض في ذلك على ذلك المذهب لحالهم بعد إتيان الرسول عليه الصلاة والسلام بيّنه سبحانه بقوله جل وعلا وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلخ أي وما تفرقوا فعرف بعض منهم الحق وآمن وعرفه بعض آخر منهم وعاند فلم يؤمن في وقت من الأوقات إلّا من بعد ما جاءتهم البينة. وطوى سبحانه ذكر حال المشركين لعلمه بالأولى من حالهم ثم إنه تعالى ذكر بعد حال كل من الفريقين المؤمن والكافر وما له في الآخرة بقوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ والذي أميل إليه مما تقدم كون الانفكاك عن الوعد باتباع الحق، ولعل القرينة على اعتباره حالية ويحتمل نحوا آخر من التوجيه وذلك بأن يجعل الكلام من باب الأعمال فيقال: إن مُنْفَكِّينَ يقتضي متعلقا هو المنفك عنه وتَأْتِيَهُمُ يقتضي فاعلا وليس في الكلام سوى البينة فكل منهما يقتضيه فأعمل فيه تَأْتِيَهُمُ وحذف معمول مُنْفَكِّينَ لدلالته عليه فكأنه قيل: لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عن البينة حتى تأتيهم البينة، وحيث كان المراد بالبينة الرسول كان الكلام في قوة لم يكونوا منفكين عن الرسول حتى يأتيهم. ويراد بعدم الانفكاك عن الرسول حيث لم يكن موجودا إذ ذاك عدم الانفكاك عن ذكره والوعد باتباعه ويكون باقي الكلام في الآية على نحو ما سبق على تقدير إرادة

مُنْفَكِّينَ عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق وإن شئت قلت في قوله تعالى وَما تَفَرَّقَ إلخ أنه على معنى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب عن الرسول وما انفكوا عنه بالإصرار على الكفر إلّا من بعد ما جاءهم فتأمل جميع ما أتيناك به والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.

وقوله تعالى وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا والمراد بالأمر مطلق التكليف ومتعلقه محذوف واللام للتعليل، والكلام في تعليل أفعاله تعالى شهير والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي والحال أنهم ما كلفوا في كتابهم بما كلفوا به لشيء من الأشياء إلا لأجل عبادة الله تعالى. وقال الفرّاء:

العرب تجعل اللام موضع أن في الأمر كأمرنا لنسلم وكذا في الإرادة كيريد الله ليبين لكم فهي هنا بمعنى أن

<<  <  ج: ص:  >  >>