للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أَحَدُهُمَا: بِجُودٍ إِلَهِيٍّ وَكَمَالٍ فِطْرِيٍّ، بِحَيْثُ يُخْلَقُ الْإِنْسَانُ وَيُولَدُ كَامِلَ الْعَقْلِ حَسَنَ الْخُلُقِ، قَدْ كُفِيَ سُلْطَانَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ، بَلْ خُلِقَتَا مُعْتَدِلَتَيْنِ مُنْقَادَتَيْنِ لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: اكْتِسَابُ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ بِالْمُجَاهَدَةِ وَالرِّيَاضَةِ، وَأَعْنِي بِهِ حَمْلَ النَّفْسِ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْخُلُقُ الْمَطْلُوبُ، فَمَنْ أَرَادَ مَثَلًا أَنْ يُحَصِّلَ لِنَفْسِهِ خُلُقَ الْجُودِ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَتَكَلَّفَ تَعَاطِيَ فِعْلِ الْجُودِ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَالِ، فَلَا يَزَالُ يُطَالِبُ نَفْسَهُ وَيُوَاظِبُ عَلَيْهِ تَكَلُّفًا مُجَاهِدًا نَفْسَهُ فِيهِ، حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ طَبْعًا لَهُ، وَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ فَيَصِيرَ بِهِ جَوَادًا. وَكَذَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحَصِّلَ لِنَفْسِهِ خُلُقَ التَّوَاضُعِ وَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْكِبْرُ، فَطَرِيقُهُ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى أَفْعَالِ الْمُتَوَاضِعِينَ مُدَّةً مَدِيدَةً، وَهُوَ فِيهَا مُجَاهِدٌ نَفْسَهُ وَمُتَكَلِّفٌ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ خُلُقًا لَهُ وَطَبْعًا فَيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ، وَجَمِيعُ الْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ شَرْعًا تَحْصُلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَصِيرَ الْفِعْلُ الصَّادِرُ مِنْهُ لَذِيذًا، فَالسَّخِيُّ هُوَ الَّذِي يَسْتَلِذُّ بَذْلَ الْمَالِ دُونَ الَّذِي يَبْذُلُهُ عَنْ كَرَاهَةٍ،، وَالْمُتَوَاضِعُ هُوَ الَّذِي يَسْتَلِذُّ التَّوَاضُعَ. وَلَنْ تَرْسَخَ الْأَخْلَاقُ الدِّينِيَّةُ فِي النَّفْسِ مَا لَمْ تَتَعَوَّدِ النَّفْسُ جَمِيعَ الْعَادَاتِ الْحَسَنَةِ، وَمَا لَمْ تَتْرُكْ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ، وَمَا لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا مُوَاظَبَةَ مَنْ يَشْتَاقُ إِلَى الْأَفْعَالِ الْجَمِيلَةِ وَيَتَنَعَّمُ بِهَا، وَيَكْرَهُ الْأَفْعَالَ الْقَبِيحَةَ وَيَتَأَلَّمُ بِهَا، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» وَمَهْمَا كَانَتِ الْعِبَادَاتُ وَتَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ مَعَ كَرَاهَةٍ وَاسْتِثْقَالٍ فَهُوَ النُّقْصَانُ، وَلَا يُنَالُ كَمَالُ السَّعَادَةِ بِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [الْبَقَرَةِ: ٤٥] . ثُمَّ لَا يَكْفِي فِي نَيْلِ السَّعَادَةِ الْمَوْعُودَةِ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ اسْتِلْذَاذُ الطَّاعَةِ وَاسْتِكْرَاهُ الْمَعْصِيَةِ فِي زَمَانٍ مَا دُونَ زَمَانٍ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الدَّوَامِ وَفِي جُمْلَةِ الْعُمْرِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَبْعِدَ مَصِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى حَدٍّ تَصِيرُ هِيَ قُرَّةَ الْعَيْنِ وَمَصِيرَ الْعِبَادَاتِ لَذِيذَةً، فَإِنَّ الْعَادَةَ تَقْتَضِي فِي النَّفْسِ عَجَائِبَ

أَغْرَبَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا نَرَى الْمُقَامِرَ الْمُفْلِسَ قَدْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَحِ وَاللَّذَّةِ بِقِمَارِهِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مَا يَسْتَثْقِلُ مَعَهُ فَرَحَ النَّاسِ بِغَيْرِ قِمَارٍ، مَعَ أَنَّ الْقِمَارَ رُبَّمَا سَلَبَهُ مَالَهُ، وَخَرَّبَ بَيْتَهُ، وَتَرَكَهُ مُفْلِسًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يُحِبُّهُ وَيَلْتَذُّ بِهِ، وَذَلِكَ لِطُولِ إِلْفِهِ لَهُ وَصَرْفِ نَفْسِهِ إِلَيْهِ مُدَّةً.

وَكَذَلِكَ اللَّاعِبُ بِالْحَمَامِ قَدْ يَقِفُ طُولَ النَّهَارِ فِي حَرِّ الشَّمْسِ قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ وَهُوَ لَا يُحِسُّ بِأَلَمِهِمَا؛ لِفَرَحِهِ بِالطُّيُورِ وَحَرَكَاتِهَا وَطَيَرَانِهَا وَتَحَلُّقِهَا فِي جَوِّ السَّمَاءِ، فَكُلُّ ذَلِكَ نَتِيجَةُ الْعَادَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ عَلَى الدَّوَامِ مُدَّةً مَدِيدَةً، وَمُشَاهِدَةِ ذَلِكَ مِنَ الْمُخَالِطِينَ وَالْمَعَارِفِ. وَإِذَا كَانَتِ النَّفْسُ بِالْعَادَةِ تَسْتَلِذُّ الْبَاطِلَ وَتَمِيلُ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ لَا تَسْتَلِذُّ الْحَقَّ لَوْ رُدَّتْ إِلَيْهِ مُدَّةً وَالْتَزَمَتِ الْمُوَاظَبَةَ عَلَيْهِ. بَلْ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الشَّنِيعَةِ خَارِجٌ عَنِ الطَّبْعِ، يُضَاهِي الْمَيْلَ إِلَى أَكْلِ الطِّينِ، فَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ، فَأَمَّا مَيْلُهُ إِلَى الْحِكْمَةِ، وَحُبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ - فَهُوَ كَالْمَيْلِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَإِنَّهُ مُقْتَضَى طَبْعِ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ رَبَّانِيٌّ، وَمَيْلُهُ إِلَى مُقْتَضَيَاتِ الشَّهْوَةِ غَرِيبٌ مِنْ ذَاتِهِ وَعَارِضٌ عَلَى طَبْعِهِ، وَإِنَّمَا غِذَاءُ الْقَلْبِ الْحِكْمَةُ وَالْمَعْرِفَةُ وَحُبُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنِ انْصَرَفَ عَنْ مُقْتَضَى طَبْعِهِ لِمَرَضٍ قَدْ حَلَّ بِهِ كَمَا قَدْ يَحِلُّ الْمَرَضُ بِالْمَعِدَةِ، فَلَا تَشْتَهِي الطَّعَامَ

<<  <   >  >>