للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بَيَانُ عِلَاجِ كَرَاهَةِ الذَّمِّ:

يُفْهَمُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَالْقَوْلُ الْوَجِيزُ فِيهِ أَنَّ مَنْ ذَمَّكَ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا قَدْ يَكُونُ قَدْ صَدَقَ فِيمَا قَالَ وَقَصَدَ بِهِ النُّصْحَ وَالشَّفَقَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وَلَكِنَّ قَصْدَهُ الْإِيذَاءُ وَالتَّعَنُّتُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا.

فَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَقَصْدُهُ النُّصْحَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَذُمَّهُ وَتَغْضَبَ عَلَيْهِ وَتَحْقِدَ بِسَبَبِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَتَقَلَّدَ مِنَّتَهُ، فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيْكَ عُيُوبَكَ فَقَدْ أَرْشَدَكَ إِلَى الْمُهْلِكِ حَتَّى تَتَّقِيَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْرَحَ بِهِ وَتَشْتَغِلَ بِإِزَالَةِ الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ عَنْ نَفْسِكَ إِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهَا، فَأَمَّا اغْتِمَامُكَ بِسَبَبِهِ وَكَرَاهَتُكَ لَهُ وَذَمُّكَ إِيَّاهُ فَإِنَّهُ غَايَةُ الْجَهْلِ.

وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ التَّعَنُّتَ فَأَنْتَ قَدِ انْتَفَعْتَ بِقَوْلِهِ إِذْ أَرْشَدَكَ إِلَى عَيْبِكَ إِنْ كُنْتَ جَاهِلًا بِهِ لِتُقْلِعَ عَنْهُ، وَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَتِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْرَحَ بِهِ ; لِأَنَّ تَنَبُّهَكَ بِقَوْلِهِ غَنِيمَةٌ، وَجَمِيعُ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ مُهْلِكَةٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَعْرِفُهَا مِنْ قَوْلِ أَعْدَائِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَغْتَنِمَهُ، وَأَمَّا قَصْدُ الْعَدُوِّ التَّعَنُّتَ فَجِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَى دِينِ نَفْسِهِ، وَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْهُ عَلَيْكَ، فَلِمَ تَغْضَبُ عَلَيْهِ بِقَوْلٍ انْتَفَعْتَ بِهِ أَنْتَ وَتَضَرَّرَ هُوَ بِهِ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْكَ بِمَا أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَكْرَهَ ذَلِكَ، وَلَا تَشْتَغِلْ بِذَمِّهِ، بَلْ تَتَفَكَّرُ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:

أَحَدُهَا: إِنْ خَلَوْتَ مِنْ ذَلِكَ الْعَيْبِ فَلَا تَخْلُو عَنْ أَمْثَالِهِ وَأَشْبَاهِهِ، وَمَا سَتَرَهُ اللَّهُ مِنْ عُيُوبِكَ أَكْثَرُ، فَاشْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى إِذْ لَمْ يُطْلِعْهُ عَلَى عُيُوبِكَ وَدَفَعَهُ عَنْكَ بِذِكْرِ مَا أَنْتَ بَرِيءٌ عَنْهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لِبَقِيَّةِ مَسَاوِئِكَ وَذُنُوبِكَ، وَكُلُّ مَنِ اغْتَابَكَ فَقَدْ أَهْدَى إِلَيْكَ حَسَنَاتِهِ، وَكُلُّ مَنْ مَدَحَكَ فَقَدْ قَطَعَ ظَهْرَكَ، فَمَا بَالُكَ تَفْرَحُ بِقَطْعِ الظَّهْرِ وَتَحْزَنُ لِهَدَايَا الْحَسَنَاتِ الَّتِي تُقَرِّبُكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ تُحِبُّ الْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُوَ أَنَّ الْمِسْكِينَ قَدْ جَنَى عَلَى دِينِهِ حَتَّى سَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ بِافْتِرَائِهِ وَتَعَرَّضَ لِعِقَابِهِ الْأَلِيمِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَغْضَبَ عَلَيْهِ مَعَ غَضَبِ اللَّهِ فَتُشَمِّتَ بِهِ الشَّيْطَانَ وَتَقُولَ: " اللَّهُمَّ أَهْلِكْهُ "، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ: " اللَّهُمَّ أَصْلِحْهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ " كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، لَمَّا أَنْ كَسَرُوا ثَنِيَّتَهُ وَشَجُّوا وَجْهَهُ وَقَتَلُوا عَمَّهُ " حمزة " يَوْمَ أُحُدٍ.

وَمِمَّا يُهَوِّنُ عَلَيْكَ كَرَاهِيَةَ الْمَذَمَّةِ قَطْعُ الطَّمَعِ، فَإِنَّ مَنِ اسْتَغْنَيْتَ عَنْهُ مَهْمَا ذَمَّكَ لَمْ يَعْظُمْ أَثَرُ ذَلِكَ فِي قَلْبِكَ، وَأَصْلُ الدِّينِ الْقَنَاعَةُ، وَبِهِمَا يَنْقَطِعُ الطَّمَعُ عَنِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَمَا دَامَ الطَّمَعُ قَائِمًا كَانَ حُبُّ الْجَاهِ وَالْمَدْحِ فِي قَلْبِ مَنْ طَمِعْتَ فِيهِ غَالِبًا، وَكَانَتْ هِمَّتُكَ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَنْزِلَةِ فِي قَلْبِهِ مَصْرُوفَةً، وَلَا يُنَالُ ذَلِكَ إِلَّا بِهَدْمِ الدِّينِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَطْمَعَ طَالِبُ الْجَاهِ وَمُحِبُّ الْمَدْحِ وَمُبْغِضُ الذَّمِّ فِي سَلَامَةِ دِينِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بَعِيدٌ جِدًّا.

<<  <   >  >>