للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الثَّانِي: الْبَطْشُ وَالْقُوَّةُ كَمَا حُكِيَ عَنْ قَوْمِ عَادٍ حِينَ قَالُوا فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فُصِّلَتْ: ١٥] وَعِلَاجُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حُمَّى يَوْمٍ تُضْعِفُ قُوَّتَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا أُعْجِبَ بِهَا رُبَّمَا سَلَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَدْنَى آفَةٍ يُسَلِّطُهَا عَلَيْهِ.

الثَّالِثُ: الْعُجْبُ بِالْعَقْلِ وَالْكِيَاسَةِ وَالتَّفَطُّنِ لِدَقَائِقِ الْأُمُورِ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَثَمَرَتُهُ الِاسْتِبْدَادُ بِالرَّأْيِ وَتَرْكُ الْمَشُورَةِ وَاسْتِجْهَالُ النَّاسِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ وَلِرَأْيِهِ، وَيَخْرُجُ إِلَى قِلَّةِ الْإِصْغَاءِ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ بِالِاسْتِغْنَاءِ بِالرَّأْيِ وَالْعَقْلِ.

وَعِلَاجُهُ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا رُزِقَ مِنَ الْعَقْلِ وَيَتَفَكَّرَ أَنَّهُ بِأَدْنَى مَرَضٍ يُصِيبُ دِمَاغَهُ كَيْفَ يُوَسْوِسُ وَيُجَنُّ بِحَيْثُ يُضْحَكُ مِنْهُ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُسْلَبَ عَقْلَهُ إِنْ أُعْجِبَ بِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِشُكْرِهِ، وَيَسْتَقْصِرَ عِلْمَهُ وَعَقْلَهُ.

وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَا أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَإِنِ اتَّسَعَ عِلْمُهُ، وَأَنَّ مَا جَهِلَهُ مِمَّا عَرَفَهُ النَّاسُ أَكْثَرُ مِمَّا عَرَفَ فَكَيْفَ بِمَا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَأَنْ يَتَّهِمَ عَقْلَهُ وَيَنْظُرَ إِلَى الْحَمْقَى كَيْفَ يُعْجَبُونَ بِعُقُولِهِمْ وَيَضْحَكُ النَّاسُ مِنْهُمْ، فَيَحْذَرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَهُوَ لَا يَدْرِي، فَإِنَّ الْقَاصِرَ الْعَقْلِ لَا يَعْلَمُ قُصُورَ عَقْلِهِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ مِقْدَارَ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْ نَفْسِهِ، وَمِنْ أَعْدَائِهِ لَا مِنْ أَصْدِقَائِهِ، فَإِنَّ مَنْ يُدَاهِنُهُ يُثْنِي عَلَيْهِ فَيَزِيدُهُ عُجْبًا، وَهُوَ لَا يَظُنُّ بِنَفْسِهِ إِلَّا الْخَيْرَ، وَلَا يَفْطَنُ لِجَهْلِ نَفْسِهِ فَيَزْدَادُ بِهِ عُجْبًا.

الرَّابِعُ: الْعُجْبُ بِالنَّسَبِ الشَّرِيفِ حَتَّى يَظُنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَنْجُو بِشَرَفِ نَسَبِهِ وَنَجَاةِ آبَائِهِ وَأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ. وَعِلَاجُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَهْمَا خَالَفَ آبَاءَهُ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَظَنَّ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِهِمْ فَقَدْ جَهِلَ، وَإِنِ اقْتَدَى بِآبَائِهِ فَمَا كَانَ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الْعُجْبُ، بَلِ الْخَوْفُ وَمَذَمَّةُ النَّفْسِ، وَلَقَدْ شَرُفُوا بِالطَّاعَةِ وَالْعِلْمِ وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ لَا بِالنَّسَبِ، فَلْيَشْرُفْ بِمَا شَرُفُوا بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) [الْحُجُرَاتِ: ١٣] أَيْ لَا تَفَاوُتَ فِي أَنْسَابِكُمْ لِاجْتِمَاعِكُمْ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فَائِدَةَ النَّسَبِ فَقَالَ: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الْحُجُرَاتِ: ١٣] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الشَّرَفَ بِالتَّقْوَى لَا بِالنَّسَبِ فَقَالَ: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الْحُجُرَاتِ: ١٣] .

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ» أَيْ كِبْرَهَا: «كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» .

وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشُّعَرَاءِ: ٢١٤] نَادَاهُمْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ حَتَّى قَالَ: «يَا فاطمة بنت محمد، يَا صفية بنت عبد المطلب عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اعْمَلَا لِأَنْفُسِكُمَا فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ إِذَا مَالُوا إِلَى الدُّنْيَا لَمْ يَنْفَعْهُمْ نَسَبُ قُرَيْشٍ. فَمَنْ عَرَفَ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَعَلِمَ أَنَّ شَرَفَهُ بِقَدْرِ تَقْوَاهُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَةِ آبَائِهِ التَّوَاضُعُ اقْتَدَى بِهِمْ فِي التَّقْوَى وَالتَّوَاضُعِ، وَإِلَّا كَانَ طَاعِنًا فِي نَسَبِ نَفْسِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ مَهْمَا انْتَمَى إِلَيْهِمْ وَلَمْ يُشْبِهْهُمْ فِي التَّوَاضُعِ وَالتَّقْوَى وَالْخَوْفِ وَالْإِشْفَاقِ.

<<  <   >  >>