للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَعَالَى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذَّارِيَاتِ: ٥٥] وَسَبِيلُكَ أَنْ تُقْبِلَ عَلَيْهَا فَتُقَرِّرَ عِنْدَهَا جَهْلَهَا وَغَبَاوَتَهَا، وَأَنَّهَا أَبَدًا تَتَعَزَّزُ بِفِطْنَتِهَا وَهِدَايَتِهَا، وَيَشْتَدُّ أَنَفُهَا وَاسْتِنْكَافُهَا إِذَا نُسِبَتْ إِلَى الْحُمْقِ فَتَقُولَ لَهَا: " يَا نَفْسُ مَا أَعْظَمَ جَهْلَكِ، تَدَّعِينَ الْحِكْمَةَ وَالذَّكَاءَ وَالْفِطْنَةَ وَأَنْتِ أَشَدُّ النَّاسِ غَبَاوَةً وَحُمْقًا، أَمَا تَعْرِفِينَ مَا بَيْنَ يَدَيْكِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَنَّكِ صَائِرَةٌ إِلَى إِحْدَاهُمَا عَلَى الْقُرْبِ؟ فَمَا لَكِ تَشْتَغِلِينَ بِاللَّهْوِ وَأَنْتِ مَطْلُوبَةٌ لِهَذَا الْخَطْبِ الْجَسِيمِ؟ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَأَنَّ الْبَعِيدَ لَيْسَ بِآتٍ؟ أَمَا تَتَدَبَّرِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الْأَنْبِيَاءِ: ١ - ٣] وَيْحَكِ يَا نَفْسُ إِنْ كَانَتْ جَرَاءَتُكِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ لِاعْتِقَادِكِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَرَاكِ فَمَا أَعْظَمَ كُفْرَكِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ عِلْمِكِ بِاطِّلَاعِهِ عَلَيْكِ فَمَا أَشَدَّ وَقَاحَتَكِ وَأَقَلَّ حَيَاءَكِ.

وَيْحَكِ يَا نَفْسُ لَوْ وَاجَهَكِ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِكِ بَلْ أَخٌ مِنْ إِخْوَانِكِ بِمَا تَكْرَهِينَهُ كَيْفَ كَانَ غَضَبُكِ عَلَيْهِ وَمَقْتُكِ لَهُ؟ فَبِأَيِّ جَسَارَةٍ تَتَعَرَّضِينَ لِمَقْتِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَشَدِيدِ عِقَابِهِ؟ أَفَتَظُنِّينَ أَنَّكِ تُطِيقِينَ عَذَابَهُ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ جَرِّبِي نَفْسَكِ إِنْ أَلْهَاكِ الْبَطَرُ عَنْ أَلِيمِ عَذَابِهِ، فَاحْتَبِسِي سَاعَةً فِي الشَّمْسِ أَوْ فِي بَيْتِ الْحَمَّامِ، أَوْ قَرِّبِي أُصْبُعَكِ مِنَ النَّارِ لِيَتَبَيَّنَ لَكِ قَدْرَ طَاقَتِكِ؛ أَمْ تَغْتَرِّينَ بِكَرَمِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ، فَمَا لَكِ لَا تُعَوِّلِينَ عَلَى كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُهِمَّاتِ دُنْيَاكِ، فَإِذَا أَرْهَقَتْكِ حَاجَةٌ إِلَى شَهْوَةٍ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا مِمَّا لَا يَنْقَضِي إِلَّا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ فَمَا لَكِ تَنْزِعِينَ الرُّوحَ فِي طَلَبِهَا وَتَحْصِيلِهَا مِنْ وُجُوهِ الْحِيَلِ، فَلِمَ تُعَوِّلِينَ عَلَى كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعْثُرَ بِكِ عَلَى كَنْزٍ أَوْ يُسَخِّرَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ فَيَحْمِلَ إِلَيْكِ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ مِنْكِ وَلَا طَلَبٍ؟ أَفَتَحْسَبِينَ أَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا وَقَدْ عَرَفْتِ أَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ لَا تَبْدِيلَ لَهَا، وَأَنَّ رَبَّ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا وَاحِدٌ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. يَا نَفْسُ: أَمَا تَسْتَعِدِّينَ لِلشِّتَاءِ بِقَدْرِ طُولِ مُدَّتِهِ فَتَجْمَعِينَ لَهُ الْقُوتَ وَالْكُسْوَةَ وَالْحَطَبَ وَجَمِيعَ الْأَسْبَابِ وَلَا تَتَّكِلِينَ فِي ذَلِكَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ حَتَّى يَدْفَعَ عَنْكِ الْبَرْدَ مِنْ غَيْرِ جُبَّةٍ وَلَبَدٍ وَحَطَبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ؟ أَفَتَظُنِّينَ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْجُو بِغَيْرِ سَعْيٍ؟ هَيْهَاتَ كَمَا لَا يَنْدَفِعُ بَرْدُ الشِّتَاءِ إِلَّا بِالْجُبَّةِ وَالنَّارِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَلَا يَنْدَفِعُ حَرُّ النَّارِ وَبَرْدُهَا إِلَّا بِحِصْنِ التَّوْحِيدِ وَخَنْدَقِ الطَّاعَاتِ. وَإِنَّمَا كَرَمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ عَرَّفَكِ طَرِيقَ التَّحَصُّنِ وَيَسَّرَ لَكِ أَسْبَابَهُ، لَا فِي أَنْ يَدْفَعَ عَنْكِ الْعَذَابَ دُونَ حِصْنِهِ. انْظُرِي يَا نَفْسُ بِأَيِّ بَدَنٍ تَقِفِينَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ؟ وَبِأَيِّ لِسَانٍ تُجِيبِينَ؟ وَأَعِدِّي لِلسُّؤَالِ جَوَابًا وَلِلْجَوَابِ صَوَابًا، وَاعْمَلِي بَقِيَّةَ عُمُرِكِ فِي أَيَّامٍ قِصَارٍ لِأَيَّامٍ طِوَالٍ، وَفِي دَارِ زَوَالٍ لِدَارِ مُقَامَةٍ، وَفِي دَارِ حَزَنٍ وَنَصَبٍ لِدَارِ نَعِيمٍ وَخُلُودٍ، وَاعْلَمِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلدِّينِ عِوَضٌ، وَلَا لِلْإِيمَانِ بَدَلٌ، وَلَا لِلْجَسَدِ خَلَفٌ، وَمَنْ كَانَتْ مَطِيَّتَهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِرْ، فَاتَّعِظِي يَا نَفْسُ بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ، وَاقْبَلِي هَذِهِ النَّصِيحَةَ، فَإِنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْمَوْعِظَةِ فَقَدْ رَضِيَ النَّارَ.

فَهَذِهِ طَرِيقُ الْقَوْمِ فِي مُعَاتَبَةِ نُفُوسِهِمْ، وَمَقْصُودُهُمْ مِنْهَا التَّنْبِيهُ وَالِاسْتِرْعَاءُ، وَمَنْ أَهْمَلَ الْمُعَاتَبَةَ لَمْ يَكُنْ لِنَفْسِهِ مُرَاعِيًا، وَيُوشِكُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ عَنْهُ رَاضِيًا.

<<  <   >  >>