للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا حَالُ عَبْدٍ مَفْقُودٍ لِنَفْسِهِ مَوْجُودٌ لِسَيِّدِهِ، وَأَنَّهُ إِنْ صَدَرَ مِمَّنْ رِضَاهُ وَغَضَبُهُ وَقِيَامُهُ وَقُعُودُهُ وَرَغْبَتُهُ فِي الْحَيَاةِ وَرَهْبَتُهُ مِنَ الْمَوْتِ لِأُمُورِ الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ مُلَائِمًا لِلْحَالِ. وَإِذَا قُلْتَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَدُوُّكَ وَمُتَرَصِّدٌ لِصَرْفِ قَلْبِكَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَسَدًا لَكَ عَلَى مُنَاجَاتِكَ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُجُودِكَ لَهُ، مَعَ أَنَّهُ لُعِنَ بِسَبَبِ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ تَرَكَهَا، وَأَنَّ اسْتِعَاذَتَكَ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْهُ بِتَرْكِ مَا يُحِبُّهُ وَتَبْدِيلِهِ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِكَ، فَإِنَّ مَنْ قَصَدَهُ سَبُعٌ أَوْ عَدُوٌّ لِيَفْتَرِسَهُ أَوْ لِيَقْتُلَهُ فَقَالَ: أَعُوذُ مِنْكَ بِهَذَا الْحِصْنِ الْحَصِينِ وَهُوَ ثَابِتٌ عَلَى مَكَانِهِ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُ، بَلْ لَا يُفِيدُهُ إِلَّا بِتَبْدِيلِ الْمَكَانِ، فَكَذَلِكَ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّهَوَاتِ الَّتِي هِيَ مَحَابُّ الشَّيْطَانِ وَمَكَارِهُ الرَّحْمَنِ فَلَا يُغْنِيهِ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ، وَمَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ فَهُوَ فِي مَيْدَانِ الشَّيْطَانِ لَا فِي حِصْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ مَكَايِدِهِ أَنْ يَشْغَلَكَ فِي صَلَاتِكَ بِذِكْرِ الْآخِرَةِ وَتَدْبِيرِ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ لِيَمْنَعَكَ عَنْ فَهْمِ مَا تَقْرَأُ، فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَشْغَلُكَ عَنْ فَهْمِ مَعَانِي قِرَاءَتِكَ فَهُوَ وَسْوَاسٌ، فَإِنَّ حَرَكَةَ اللِّسَانِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، بَلِ الْمَقْصُودُ مَعَانِيهَا، فَإِذَا قُلْتَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَانْوِ بِهِ التَّبَرُّكَ لِابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ لِكَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَافْهَمْ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ بِهِ تَعَالَى فَلَا جَرَمَ كَانَ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشُّكْرَ لِلَّهِ إِذِ النِّعَمُ مِنَ اللَّهِ، وَمَنْ يَرَى مِنْ غَيْرِ اللَّهِ نِعْمَةً أَوْ يَقْصِدُ غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِشُكْرِهِ لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُسَخَّرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَفِي تَسْمِيَتِهِ وَتَحْمِيدِهِ نُقْصَانٌ بِقَدْرِ الْتِفَاتِهِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِذَا قُلْتَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَأَحْضِرْ فِي قَلْبِكَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ لُطْفِهِ لِتَتَّضِحَ لَكَ رَحْمَتُهُ فَيَنْبَعِثَ بِهِ رَجَاؤُكَ، ثُمَّ اسْتَثِرْ مِنْ قَلْبِكَ التَّعْظِيمَ وَالْخَوْفَ بِقَوْلِكَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، أَمَّا الْعَظَمَةُ فَلِأَنَّهُ لَا مُلْكَ إِلَّا لَهُ، وَأَمَّا الْخَوْفُ فَلِهَوْلِ يَوْمِ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ الَّذِي هُوَ مَالِكُهُ، ثُمَّ جَدِّدِ الْإِخْلَاصَ بِقَوْلِكَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وَجَدِّدِ الْعَجْزَ وَالِاحْتِيَاجَ وَالتَّبَرُّؤَ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ بِقَوْلِكَ: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، وَتَحَقَّقْ أَنَّهُ مَا تَيَسَّرَتْ طَاعَتُكَ إِلَّا بِإِعَانَتِهِ، وَأَنَّ لَهُ الْمِنَّةَ إِذْ وَفَّقَكَ لِطَاعَتِهِ. ثُمَّ عَيِّنْ سُؤَالَكَ وَلَا تَطْلُبْ إِلَّا أَهَمَّ حَاجَتِكَ وَقُلِ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) الَّذِي يَسُوقُنَا إِلَى جِوَارِكَ وَيُفْضِي بِنَا إِلَى مَرْضَاتِكَ، وَزِدْهُ شَرْحًا وَتَفْصِيلًا وَتَأْكِيدًا وَاسْتِشْهَادًا بِالَّذِينَ أَفَاضَ عَلَيْهِمْ نِعْمَةَ الْهِدَايَةِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ دُونَ الَّذِينَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَالزَّائِغِينَ. ثُمَّ الْتَمِسِ الْإِجَابَةَ وَقُلْ: «آمِينَ» . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ حَظٌّ سِوَى ذِكْرِ اللَّهِ فِي جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ فَنَاهِيكَ بِذَلِكَ غَنِيمَةً، فَكَيْفَ بِمَا تَرْجُوهُ مِنْ ثَوَابِهِ وَفَضْلِهِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَفْهَمَ مَا تَقْرَؤُهُ مِنَ السُّوَرِ فَلَا تَغْفُلْ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَمَوَاعِظِهِ وَأَخْبَارِ أَنْبِيَائِهِ وَذِكْرِ مِنَّتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَقٌّ: فَالرَّجَاءُ حَقُّ الْوَعْدِ، وَالْخَوْفُ حَقُّ الْوَعِيدِ، وَالْعَزْمُ حَقُّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالِاتِّعَاظُ حَقُّ الْمَوْعِظَةِ، وَالشُّكْرُ حَقُّ الْمِنَّةِ، وَالِاعْتِبَارُ حَقُّ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ ; وَتَكُونُ هَذِهِ الْمَعَانِي بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الْفَهْمِ، وَيَكُونُ الْفَهْمُ بِحَسَبِ وُفُورِ الْعِلْمِ وَصَفَاءِ الْقَلْبِ، وَدَرَجَاتُ ذَلِكَ لَا تَنْحَصِرُ، وَالصَّلَاةُ مِفْتَاحُ الْقُلُوبِ فِيهَا تَنْكَشِفُ أَسْرَارُ الْكَلِمَاتِ فَهَذَا حَقُّ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ حَقُّ الْأَذْكَارِ وَالتَّسْبِيحَاتِ أَيْضًا، ثُمَّ يُرَاعِي الْهَيْبَةَ فِي الْقِرَاءَةِ فَيُرَتِّلُ وَلَا يَسْرُدُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِلتَّأَمُّلِ.

<<  <   >  >>