للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الباب السابع: في ولاية المظالم]

وَنَظَرُ الْمَظَالِمِ هُوَ قَوْدُ الْمُتَظَالِمَيْنِ إلَى التَّنَاصُفِ بِالرَّهْبَةِ، وَزَجْرُ الْمُتَنَازِعَيْنِ عَنِ التَّجَاحُدِ بِالْهَيْبَةِ، فَكَانَ مِنْ شُرُوطِ النَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَكُونَ جَلِيلَ الْقَدْرِ، نَافِذَ الْأَمْرِ، عَظِيمَ الْهَيْبَةِ، ظَاهِرَ الْعِفَّةِ، قَلِيلَ الطَّمَعِ، كَثِيرَ الْوَرَعِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي نَظَرِهِ إلَى سَطْوَةِ الْحُمَاةِ وَثَبْتِ الْقُضَاةِ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ صِفَاتِ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ بِجَلَالَةِ الْقَدْرِ نَافِذَ الْأَمْرِ فِي الْجِهَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْأُمُورَ الْعَامَّةَ -كَالْوُزَرَاءِ وَالْأُمَرَاءِ- لَمْ يَحْتَجِ النَّظَرُ فِيهَا إلَى تَقْلِيدٍ، وَكَانَ لَهُ بِعُمُومِ وِلَايَتِهِ النَّظَرُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يُفَوَّضْ إلَيْهِ عُمُومُ النَّظَرِ احْتَاجَ إلَى تَقْلِيدٍ، وَتَوْلِيَةٍ إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَنْ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَارَ لِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، أَوْ لِوِزَارَةِ التَّفْوِيضِ، أَوْ لِإِمَارَةِ الْأَقَالِيمِ إذَا كَانَ نَظَرُهُ فِي الْمَظَالِمِ عَامًّا، فَإِنْ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى تَنْفِيذِ مَا عَجَزَ الْقُضَاةُ عَنْ تَنْفِيذِهِ، وَإِمْضَاءِ مَا قَصُرَتْ يَدُهُمْ عَنْ إمْضَائِهِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ دُونَ هَذِهِ الرُّتْبَةِ فِي الْقَدْرِ وَالْخَطَرِ بَعْدَ أَنْ لَا تَأْخُذَهُ فِي الْحَقِّ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَسْتَشِفُّهُ الطَّمَعُ إلَى رِشْوَةٍ.

فَقَدْ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَظَالِمَ فِي الشُّرْبِ الَّذِي تَنَازَعَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَحَضَرَهُ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: "اسْقِ أَنْتَ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ الْأَنْصَارِيُّ"، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: إنَّهُ لَابْنُ عَمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَغَضِبَ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ: "يَا زُبَيْرُ أَجْرِهِ عَلَى بَطْنِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ إلَى الْكَعْبَيْنِ" ١.

وَإِنَّمَا قَالَ: أَجْرِهِ عَلَى بَطْنِهِ أَدَبًا لَهُ لِجُرْأَتِهِ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ لِمَ أَمَرَهُ بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، هَلْ كَانَ حَقًّا بَيَّنَهُ لَهُمَا حُكْمًا، أَوْ كَانَ مُبَاحًا، فَأَمَرَهُ بِهِ زَجْرًا عَلَى جَوَابَيْنِ، وَلَمْ يُنْتَدَب لِلْمَظَالِمِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مَعَ ظُهُورِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ بَيْنَ مَنْ يَقُودُهُ التَّنَاصُفُ إلَى الْحَقِّ، أَوْ يَزْجُرُهُ الْوَعْظُ عَنِ الظُّلْمِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُنَازَعَاتُ تَجْرِي بَيْنَهُمْ فِي أُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ يُوَضِّحُهَا حُكْمُ الْقَضَاءِ، فَإِنْ تَجَوَّرَ مِنْ جُفَاةِ أَعْرَابِهِمْ مُتَجَوِّرٌ ثَنَاهُ الْوَعْظُ أَنْ يُدْبِرَ،


١ رواه البخاري في كتاب المساقاة "٢٣٦٠"، ومسلم في كتاب الفضائل "٢٣٥٧".

<<  <   >  >>