للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الفصل السادس: في التعزير]

والتعزير: تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله، فيوافق الحدود من وجه أنه تأديب استصلاح وزجر، يختلف بحسب اختلاف الذنب، ويخالف الحدود من ثلاثة أوجه:

أحدها: إنَّ تأديب ذي الهيبة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" ١.

فتدرج في الناس على منازلهم: فإن تساووا في الحدود المقدَّرة فيكون تعزير من جلَّ قدره بالإعراض عنه، وتعزير من دونه بالتعنيف له، وتعزير من دونه بزواجر الكلام وغاية الاستخفاف الذي لا قذف فيه ولا سب، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الحبس الذي يحبسون فيه على حسب ذنبهم وبحسب هفواتهم، فمنهم من يحبس يومًا، ومنهم من يحبس أكثر منه إلى غاية مقدرة. وقال أبو عبد الله الزبيري من أصحاب الشافعي: تقدَّر غايته بشهر للاستبراء والكشف، وبستة أشهر للتأديب والتقويم، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى النفي والإبعاد إذا تعدت ذنوبه إلى اجتذاب غيره إليها واستضراره بها٢.

واختلف في غاية نفيه وإبعاده، فالظاهر من مذهب الشافعي تقدر بما دون الحول ولو بيوم واحد؛ لئلَّا يصير مساويًا لتعزير الحول في الزنا، وظاهر مذهب مالك أنه يجوز أن يزاد فيه على الحول بما يرى من أسباب الزواجر، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الضرب ينزلون فيه على حسب الهفوة في مقدار الضرب، وبحسب الرتبة في الامتهان والصيانة.

واختلف في أكثر ما ينتهي إليه الضرب في التعزير، فظاهر مذهب الشافعى أنَّ أكثره في الحر تسعة وثلاثون سوطًا لينقص عن أقلِّ الحدود في الخمر، فلا يبلغ بالحر أربعين، وبالعبد


١ صحيح: رواه أبو داود في كتاب الحدود "٤٣٧٥"، وأحمد "٢٤٩٤٦"، وصحَّحه الشيخ الألباني.
٢ في فتاوى قاضيخان وغيره: إن كان المدعى عليه ذا مروءة وكان أول ما فعل يوعظ استحسانًا فلا يعزر، فإن عاد وتكرر منه روي عن أبي حنيفة أنه يضرب، وهذا يجب أن يكون في حقوق الله تعالى، فإن حقوق العباد لا يتمكن القاضي فيها من إسقاط التعزير. قلت: يمكن أن يكون محله ما قلت من حقوق الله تعالى ولا مناقضة؛ لأنه إذا كان ذا مروءة فقد حصل تعزيره بالجر إلى باب القاضي والدعوى، فلا يكون مسقطًا لحق الله -سبحانه وتعالى- في التعزير. [شرح فتح القدير للسيواسي: ٥/ ٣٤٦] .

<<  <   >  >>