للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثالثًا: قالوا: جواز النيابة في العبادات تنافي الغرض من تشريعها:

لأن المقصود من العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره؛ حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرًا مع الله، ومراقبا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيًا في مرضاته، وما يقرب إليه على حسب طاقته، والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده؛ لأنَّ معنى ذلك ألا يكون العبد عبدًا، ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعًا، ولا متوجهًا، إذا ناب عنه غيره في ذلك، وإذا قام غيره في ذلك مقامه فذلك القائم هو الخاضع المتوجه، والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصاف بصفات العبودية، والاتصاف لا يعدو المتصف به، ولا ينتقل عنه إلى غيره. والنيابة إنّما معناها أن يكون المنوب عنه بمنزلة النائب، حتى يعدّ المنوب عنه متصفًا بما اتصف به النائب، وذلك لا يصحّ في العبادات كما يصحّ في التصرفات (١) .

يقول العز بن عبد السلام موضحًا هذه المسألة: "لا يثاب الإنسان ولا يعاقب إلا على كسبه واكتسابه؛ لأنَّ الغرض بالتكاليف تعظيم الإله بطاعته، واجتناب معصيته، وذلك مختص بفاعليه؛ إذ لا يكون معظّم الحرمات منتهكًا لها بانتهاك غيره، ولا منتهك الحرمات معظمًا لها بتعظيم غيره، فكذلك لا تجوز الاستنابة في المعاصي والمخالفات، ولا في الطاعات البدنيات إلا ما استثني ... " (٢) .

رابعًا: قالوا: لو صحت النيابة في العبادات البدنية لصحت في الأعمال القلبية كالإيمان وغيره من الصبر والشكر والرضى والتوكل والخوف والرجاء وما أشبه ذلك.

ولو كانت النيابة جائزة، فإنَّ التكاليف ينبغي ألا تكون محتومة على المكلف عينًا لجواز النيابة، فكان يجوز أمره ابتداء على التخيير بين العمل والاستنابة، ولصحّ مثل ذلك في المصالح المختصة بالأعيان من العبادات كالأكل


(١) "الموافقات" (٢/١٦٧-١٦٨) .
(٢) "قواعد الأحكام" (١/١٣٥) .

<<  <  ج: ص:  >  >>