للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَوْلِهِ: يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ [٧٥ \ ١٠ - ١١] ، فَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ انْتِفَاءُ مَكَانٍ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ وَيَعْتَصِمُونَ بِهِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.

أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ، أَيْ: يَحْبِسَهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ، لَا يُرِيدُونَ بِدُعَائِهِمْ إِلَّا رِضَاهُ جَلَّ وَعَلَا.

وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ كَعَمَّارٍ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَحْوِهِمْ، لَمَّا أَرَادَ صَنَادِيدُ الْكُفَّارِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُدَهُمْ عَنْهُ، وَيُجَالِسَهُمْ بِدُونِ حُضُورِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» أَنَّ اللَّهَ كَمَا أَمَرَهُ هُنَا بِأَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ أَمْرَهُ بِأَلَّا يَطْرُدَهُمْ، وَأَنَّهُ إِذَا رَآهُمْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ - إِلَى قَوْلِهِ - وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ [٦ \ ٥٢ - ٥٤] ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا [٨٠ \ ١ - ١١] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَا طَلَبَهُ الْكُفَّارُ مِنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرْدِهِ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَضُعَفَاءَهُمْ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ وَازْدِرَاءً بِهِمْ، طَلَبَهُ أَيْضًا قَوْمُ نُوحٍ مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ طَرْدِهِمْ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [٢٦ \ ١١١] ، وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ أَيْضًا: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [١١ \ ٢٧] ، وَقَالَ عَنْ نُوحٍ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ طَرْدِهِمْ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [٢٦ \ ١١٤] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [١١ \ ٢٩ - ٣٠] .

وَقَوْلُهُ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [١٨ \ ٢٨] ، فِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَادَّةَ الصَّبْرِ تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا لِلْمَفْعُولِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ أَوْ عَنْتَرَةَ:

فَصَبَرَتْ عَارِفَةً بِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ

وَالْغَدَاةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالْعَشِيُّ: آخِرُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>