للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ الْحَيُّ: الْمُتَّصِفُ بِالْحَيَاةِ الَّذِي لَا يَمُوتُ أَبَدًا. وَالْقَيُّومُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ. لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا هُوَ الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ شُئُونِ جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ. وَقِيلَ: الْقَيُّومُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَزُولُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا.

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِرَبِّهِ فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ ظُلْمًا، وَلَا هَضْمًا. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [٤ \ ٤٠] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [٦٠ \ ٤٤] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [١٨ \ ٤٩] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ.

وَفَرَّقَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ الظُّلْمِ، وَالْهَضْمِ بِأَنَّ الظُّلْمَ الْمَنْعُ مِنَ الْحَقِّ كُلِّهِ. وَالْهَضْمَ: النَّقْصُ وَالْمَنْعُ مِنْ بَعْضِ الْحَقِّ. فَكُلُّ هَضْمٍ ظُلْمٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْهَضْمِ عَلَى مَا ذُكِرَ قَوْلُ الْمُتَوَكِّلِ اللَّيْثِيِّ:

إِنَّ الْأَذِلَّةَ وَاللِّئَامَ لَمَعْشَرٌ ... مَوْلَاهُمُ الْمُنْهَضِمُ الْمَظْلُومُ

فَالْمُنْهَضِمُ: اسْمُ مَفْعُولٍ تَهْضِمُهُ إِذَا اهْتَضَمَهُ فِي بَعْضِ حُقُوقِهِ وَظَلَمَهُ فِيهَا.

وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ [٢٠ \ ١١١] ، بِضَمِّ الْفَاءِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْخَاءِ مَرْفُوعًا، وَلَا نَافِيَةٍ. أَيْ: فَهُوَ لَا يَخَافُ، أَوْ فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ «فَلَا يَخَفْ» بِالْجَزْمِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْخَاءِ. وَعَلَيْهِ فَـ «لَا» نَاهِيَةٌ جَازِمَةُ الْمُضَارِعِ. وَقَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ مَجْزُومٌ. لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ وَمَنْ يَعْمَلْ غَلَطٌ مِنْهُ. لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَلَا يَخَافُ مَانِعَةٌ مِنْ ذَلِكَ. وَالتَّحْقِيقُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ «لَا» نَاهِيَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَالْجُمْلَةُ الطَّلَبِيَّةُ جَزَاءُ الشَّرْطِ، فَيَلْزَمُ اقْتِرَانُهَا بِالْفَاءِ. لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ فِعْلًا لِلشَّرْطِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ.

الْآيَةَ، قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>