للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ الْآيَةَ [٦٥ \ ٧] . فَقَوْلُهُ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [٦٥ \ ٧] أَيْ: وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [٢١ \ ٨٧] لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَعَلَيْهِ فَهُوَ مِنَ الْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ. «وَقَدَرَ» بِالتَّخْفِيفِ تَأْتِي بِمَعْنَى «قَدَّرَ» الْمُضَعَّفَةِ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [٥٤ \ ١٢] أَيْ: قَدَّرَهُ اللَّهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ - وَأَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ شَاهِدًا لِذَلِكَ -:

فَلَيْسَتْ عَشِيَاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ ... لَنَا أَبَدًا مَا أَوْرَقَ السَّلِمُ النَّضِرُ

وَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزَّمَانُ الَّذِي مَضَى ... تَبَارَكْتَ مَا تَقْدِرُ يَقَعُ لَكَ الشُّكْرُ

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدَرَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ يَقْدِرُهُ قَدْرًا، كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَنَصَرَ يَنْصُرُ، بِمَعْنَى قَدَّرَهُ لَكَ تَقْدِيرًا. وَمِنْهُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ «لَيْلَةُ الْقَدْرِ» ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ فِيهَا الْأَشْيَاءَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [٤٤ \ ٤] وَالْقَدَرُ بِالْفَتْحِ، وَالْقَدْرُ بِالسُّكُونِ: مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ. وَمِنْهُ قَوْلُ هُدْبَةَ بْنِ الْخَشْرَمِ:

أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلنَّوَائِبِ وَالْقَدَرِ ... وَلِلْأَمْرِ يَأْتِي الْمَرْءُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي

أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [٢١ \ ٨٧] مِنَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُونُسَ لَا يَشُكُّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا لَا يَخْفَى.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مُغَاضِبًا أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِهِ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ. وَمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ فِيهِ: أَنَّهُ أَغْضَبَهُمْ بِمُفَارَقَتِهِ وَتَخَوُّفِهِمْ حُلُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَأَغْضَبُوهُ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ مُدَّةً فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَأَوْعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْخُرُوجِ. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَقِيلَ مَعْنَى «مُغَاضِبًا» غَضْبَانُ، وَهُوَ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي اشْتِرَاكًا نَحْوَ عَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَسَافَرْتُ. اهـ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مُغَاضِبًا أَيْ: مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالْقُتْبِيُّ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْمَهْدَوِيُّ - يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَيْ: مُغَاضِبًا مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا: وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَرُبَّمَا أَنْكَرَ هَذَا مَنْ لَا يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ، وَالْمَعْنَى: مُغَاضِبًا مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ كَمَا تَقُولُ: غَضِبْتُ لَكَ أَيْ: مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>