للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» الْحَدِيثَ، وَعَلَيْهِ فَهَذَا التَّخْصِيصُ لِشِدَّةِ التَّغْلِيظِ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ، وَوَجْهُ هَذَا ظَاهِرٌ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْإِرَادَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [٢٢ \ ٢٥] الْعَزْمُ الْمُصَمِّمُ عَلَى ارْتِكَابِ الذَّنْبِ فِيهِ، وَالْعَزْمُ الْمُصَمِّمُ عَلَى الذَّنْبِ ذَنْبٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ بِقَاعِ اللَّهِ؛ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الذَّنْبِ إِذَا كَانَتْ عَزْمًا مُصَمَّمًا عَلَيْهِ أَنَّهَا كَارْتِكَابِهِ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْنَا الْقَاتِلَ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» . فَقَوْلُهُمْ: مَا بَالُ الْمَقْتُولِ: سُؤَالٌ عَنْ تَشْخِيصِ عَيْنِ الذَّنْبِ الَّذِي دَخَلَ بِسَبَبِهِ النَّارَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ الْقَتْلَ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» أَنَّ ذَنْبَهُ الَّذِي أَدْخَلَهُ النَّارَ هُوَ عَزْمُهُ الْمُصَمِّمُ وَحِرْصُهُ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ الْمُسْلِمِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ «إِنَّ» الْمَكْسُورَةَ الْمُشَدَّدَةَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ.

وَمِثَالُ الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الْعَزْمِ الْمُصَمِّمِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ فِيهِ، مَا وَقَعَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ مِنَ الْإِهْلَاكِ الْمُسْتَأْصِلِ، بِسَبَبِ طَيْرٍ أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [١٠٥ \ ٤] لِعَزْمِهِمْ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنَاكِرِ فِي الْحَرَمِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْعَزْمِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَكِنَّ حُكْمَ الْحَرَمِ كُلِّهِ فِي تَغْلِيظِ الذَّنْبِ الْمَذْكُورِ كَذَلِكَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ؛ أَيِ اذْكُرْ حِينَ بَوَّأْنَا، تَقُولُ الْعَرَبُ: بَوَّأْتُ لَهُ مَنْزِلًا، وَبَوَّأْتُهُ مَنْزِلًا، وَبَوَّأْتُهُ فِي مَنْزِلٍ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كُلُّهَا بِمَعْنَى: هَيَّأْتُهُ لَهُ وَمَكَّنْتُ لَهُ فِيهِ وَأَنْزَلْتُهُ فِيهِ، فَتَبَوَّأَهُ؛ أَيْ: نَزَلَهُ، وَتَبَوَّأْتُ لَهُ مَنْزِلًا أَيْضًا: هَيَّأْتُهُ لَهُ وَأَنْزَلْتُهُ فِيهِ. فَـ «بَوَّأَهُ» الْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا الْآيَةَ [٢٩ \ ٥٨] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً الْآيَةَ [١٦ \ ٤٢] وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الزُّبَيْدِيِّ:

<<  <  ج: ص:  >  >>