للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذَا النَّوْعُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنَ الْقَلْبِ فِي الْآيَةِ، كَقَلْبِ الْفَاعِلِ مَفْعُولًا، وَالْمَفْعُولِ فَاعِلًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ - اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ، فَمَنَعَهُ الْبَلَاغِيُّونَ إِلَّا فِي التَّشْبِيهِ، فَأَجَازُوا قَلْبَ الْمُشَبَّهِ مُشَبَّهًا بِهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ مُشَبَّهًا بِشَرْطِ أَنْ يَتَضَمَّنَ ذَلِكَ نُكْتَةً وَسِرًّا لَطِيفًا، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ فِي مَبْحَثِ التَّشْبِيهِ الْمَقْلُوبِ.

وَأَجَازَهُ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ نَطَقَتْ بِهِ الْعَرَبُ فِي لُغَتِهَا، إِلَّا أَنَّهُ يُحْفَظُ مَا سَمِعَ مِنْهُ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي التَّشْبِيهِ قَوْلُ الرَّاجِزِ:

وَمَنْهَلٌ مُغْبَرَّةٌ أَرْجَاؤُهُ ... كَأَنَّ لَوْنَ أَرْضِهِ سَمَاؤُهُ

أَيْ كَأَنَّ سَمَاءَهُ لَوْنُ أَرْضِهِ، وَقَوْلُ الْآخَرِ:

وَبَدَا الصَّبَاحُ كَأَنَّ غُرَّتَهُ ... وَجْهُ الْخَلِيفَةِ حِينَ يُمْتَدَحَ

لِأَنَّ أَصْلَ الْمُرَادِ تَشْبِيهُ وَجْهِ الْخَلِيفَةِ بِغُرَّةِ الصَّبَاحِ، فَقَلَبَ التَّشْبِيهَ لِيُوهِمَ أَنَّ الْفَرْعَ أَقْوَى مِنَ الْأَصْلِ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ.

قَالُوا: وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [٢٨ \ ٧٦] ; لِأَنَّ الْعُصْبَةَ مِنَ الرِّجَالِ هِيَ الَّتِي تَنُوءُ بِالْمَفَاتِيحِ، أَيْ تَنْهَضُ بِهَا بِمَشَقَّةٍ وَجُهْدٍ لِكَثْرَتِهَا وَثِقَلِهَا، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ [٢٨ \ ٦٦] . أَيْ عَمُوا عَنْهَا. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:

كَأَنَّ أَوْبَ ذِرَاعَيْهَا إِذَا عَرِقَتْ ... وَقَدْ تَلَفَّعَ بِالْقَوْرِ الْعَسَاقِيلِ

لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: تَلَفَّعَ لَبِسَ اللِّفَاعَ وَهُوَ اللِّحَافُ، وَالْقَوْرُ: الْحِجَارَةُ الْعِظَامُ، وَالْعَسَاقِيلُ: السَّرَابُ.

وَالْكَلَامُ مَقْلُوبٌ ; لِأَنَّ الْقَوْرَ هِيَ الَّتِي تَلْتَحِفُ بِالْعَسَاقِيلِ لَا الْعَكْسُ، كَمَا أَوْضَحَهُ لَبِيدٌ فِي مُعَلَّقَتِهِ بِقَوْلِهِ:

فَبِتِلْكَ إِذْ رَقَصَ اللَّوَامِعُ بِالضُّحَى ... وَاجْتَابَ أَرْدِيَةَ السَّرَابِ إِكَامُهَا

فَصَرَّحَ بِأَنَّ الْإِكَامَ الَّتِي هِيَ الْحِجَارَةُ اجْتَابَتْ، أَيْ لَبِسَتْ، أَرْدِيَةَ السَّرَابِ.

وَالْأَرْدِيَةُ جَمْعُ رِدَاءٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقَلْبِ وَإِنْ أَجَازَهُ بَعْضُهُمْ فَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْآيَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>