للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[٥٩ \ ٩] ، وَصْفٌ شَامِلٌ لِلْأَنْصَارِ، (تَبَوَّءُوا الدَّارَ) أَيْ: الْمَدِينَةَ، (وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أَيْ: بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الْمُهَاجِرِينَ، بَلْ وَمِنْ قَبْلِ إِيمَانِ بَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ، (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) وَيَسْتَقْبِلُونَهُ بِصُدُورٍ رَحْبَةٍ، (وَيُؤْثِرُونَ) غَيْرَهُمْ (عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ، لِأَنَّهُمْ هَاجَرُوا إِلَيْهِمْ.

وَظَاهِرُ النُّصُوصِ تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا أَنَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَا يَدُلُّ لِمُشَارَكَةِ الْمُهَاجِرِينَ الْأَنْصَارَ فِي هَذَا الْوَصْفِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ الْإِيثَارُ عَلَى النَّفْسِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ هُوَ بَذْلُ الْمَالِ لِلْغَيْرِ عِنْدَ حَاجَتِهِ مُقَدِّمًا غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِالذَّاتِ سَبَقَ أَنْ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَنْفُسِهِمِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [٥٩ \ ٨] ، فَكَانَتْ لَهُمْ دِيَارٌ، وَكَانَتْ عِنْدَهُمْ أَمْوَالٌ وَأُخْرِجُوا مِنْهَا كُلِّهَا، فَلَئِنْ كَانَ الْأَنْصَارُ وَاسَوْا إِخْوَانَهُمُ الْمُهَاجِرِينَ بِبَعْضِ أَمْوَالِهِمْ، وَقَاسَمُوهُمْ مُمْتَلَكَاتِهِمْ، فَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يَنْزِلُوا عَنْ بَعْضِ أَمْوَالِهِمْ فَحَسْبُ، بَلْ تَرَكُوهَا كُلَّهَا: أَمْوَالَهُمْ، وَدِيَارَهُمْ، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَهْلَهُمْ، فَصَارُوا فُقَرَاءَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَمَنْ يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ مَالِهِ وَدِيَارِهِ، وَيَتْرُكُ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ تَضْحِيَةً مِمَّنْ آثَرَ غَيْرَهُ بِبَعْضِ مَالِهِ، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي أَهْلِهِ وَدِيَارِهِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ عَوَّضَهُمْ بِهَذَا الْفَيْءِ عَمَّا فَاتَ عَنْهُمْ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْأَنْصَارِ مَا يُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَخَرَجُوا إِلَيْكُمْ» فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمْوَالُنَا بَيْنَنَا قَطَائِعُ الْحَدِيثَ.

أَيْ أَنَّ الْأَنْصَارَ عَرَفُوا ذَلِكَ لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا، فَقَدِ اسْتَوَى الْمُهَاجِرُونَ مَعَ الْأَنْصَارِ فِي هَذَا الْوَصْفِ الْمِثَالِيِّ الْكَرِيمِ، وَكَانَ خُلُقًا لِكَثِيرِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَكَذَلِكَ عَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَمَا كَانَتْ صَائِمَةً، وَلَيْسَ عِنْدَهَا سِوَى قُرْصٍ مِنَ الشَّعِيرِ وَجَاءَ سَائِلٌ فَقَالَتْ لِبَرِيرَةَ: ادْفَعِي إِلَيْهِ مَا عِنْدَكِ، فَقَالَتْ لَهَا: لَيْسَ إِلَّا مَا سَتُفْطِرِينَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ لَهَا: ادْفَعِيهِ إِلَيْهِ، وَلَعَلَّهَا أَحْوَجُ إِلَيْهِ الْآنَ، أَوْ كَمَا قَالَتْ.

وَلَمَّا جَاءَ الْمَغْرِبُ أُهْدِيَ إِلَيْهِمْ رِجْلُ شَاةٍ بِقِرَامِهَا - وَقِرَامُهَا هُوَ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>