للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ؛ لِأَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَوَافَيْتُهُ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالطُّورِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ، فَكَأَنَّمَا صَدَعَ قَلْبِي فَأَسْلَمْتُ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ أَقُومَ مِنْ مَقَامِي حَتَّى يَقَعَ بِي الْعَذَابُ.

وَذُكِرَ فِي خَبَرِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَهَا فَجَعَلَ يَضْطَرِبُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ.

وَقَدْ نَقَلَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ خَبَرَ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ بِتَمَامِهِ فِي فَصْلِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.

وَقَالَ: قَدْ مَاتَ جَمَاعَةٌ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتٍ مِنْهُ أُفْرِدُوا بِالتَّصْنِيفِ، وَقَدْ يَنْشَأُ هُنَا سُؤَالٌ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ لَوْ أُنْزِلَ عَلَى الْجِبَالِ وَلَمْ تَتَأَثَّرْ بِهِ الْقُلُوبُ؟ وَقَدْ أَجَابَ الْقُرْآنُ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [٢ \ ٧٤] ، وَكَذَلِكَ أَصَمُّوا آذَانَهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ، وَغَلَّفُوا قُلُوبَهُمْ بِالْكُفْرِ عَنْ فَهْمِهِ، وَأَوْصَدُوهَا بِأَقْفَالِهَا فَقَالُوا: قُلُوبُنَا غُلْفٌ [٢ \ ٨٨] ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [١٨ \ ٥٧] أَيْ: بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ وَعَدَمِ التَّدَبُّرِ وَالنِّسْيَانِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [٤٧ \ ٢٤] فَهَذِهِ أَسْبَابُ عَدَمِ تَأَثُّرِ الْكَفَّارِ بِالْقُرْآنِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ ... فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ

وَيُفْهَمُ مِنْهُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَخْشَعُ قُلُوبُهُمْ، وَتَلِينُ جُلُودُهُمْ، كَمَا نَصَّ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ [٣٩ \ ٢٣] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْهُ عَلَى جَبَلٍ وَلَمْ يَتَصَدَّعْ مِنْهُ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَوْ أَنْزَلَهُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا [٣٣ \ ٧٢] .

وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ لِأَنَّ الْجِبَالَ أَشْفَقَتْ مِنْ حَمْلِ الْأَمَانَةِ وَهِيَ أَمَانَةُ التَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَى

<<  <  ج: ص:  >  >>