للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَبَعْدَ التَّأَمُّلِ، ظَهَرَ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُقْسِمُ بِشَيْءٍ فِي مَوْضِعٍ دُونَ غَيْرِهِ، إِلَّا لِغَرَضٍ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، يَكُونُ بَيْنَ الْمُقْسَمِ بِهِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ مُنَاسِبَةٌ وَارْتِبَاطٌ، وَقَدْ يَظْهَرُ ذَلِكَ جَلِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ خَفِيًّا.

وَهَذَا فِعْلًا مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَالْإِعْجَازُ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَقِفْ عَلَى بَحْثٍ فِيهِ.

وَلَكِنْ مِمَّا يُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَوْضُوعِ، مَا جَاءَ بِالْإِقْسَامِ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ، وَفِي حَالَتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ.

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [٩٠ \ ١ - ٤] .

وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [٩٥ \ ١ - ٤] .

فَالْمَقْسَمُ بِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: مَكَّةُ الْمُكَرَّمَةُ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ كَانَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ مُكَابَدَةَ الْإِنْسَانِ مِنْ أَوَّلِ وِلَادَتِهِ إِلَى نَشْأَتِهِ، إِلَى كَدِّهِ فِي حَيَاتِهِ، إِلَى نِهَايَتِهِ وَمَمَاتِهِ.

مِنْ ذَلِكَ مُكَابَدَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ وِلَادَتِهِ إِلَى حَيْثُ مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَهُ، وَلَحِقَتْ بِهِ أُمُّهُ، وَهُوَ فِي طُفُولَتِهِ، وَبَعْدَ الْوَحْيِ كَابَدَ مَعَ قَوْمِهِ وَلَقِيَ مِنْهُمْ عَنَتًا شَدِيدًا، حَتَّى تَآمَرُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَلَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: اصْبِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُكَابَدَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلْإِنْسَانِ كَمُلَازَمَتِكَ لِهَذَا الْبَلَدِ مُنْذُ وِلَادَتِكَ.

وَفِي ذِكْرِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ إِشْعَارٌ بِبَدْءِ الْمُكَابَدَةِ، وَبِأَشُدِّهَا مِنْ حَالَةِ الْوِلَادَةِ وَطَبِيعَةِ الطُّفُولَةِ، وَلِذَا ذَكَرَ هُنَا هَذَا الْبَلَدَ بِدُونِ أَيِّ وَصْفٍ.

أَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي: فَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَهِيَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ عَلَيْهِ جَاءَ بِالْمُقْسَمِ بِهِ عَرْضًا لِلنِّعَمِ، وَتَعَدُّدِهَا مِنَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْفَاكِهَةُ الْمَذْكُورَةُ أَوْ أَمَاكِنُهَا، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مَعَ طُورِ سِينِينَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>