للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَدَعَكَ» ، بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْوَدْعِ، أَيْ: مِنَ التَّرْكِ، كَمَا قَالَ أَبُو الْأُسُودِ:

لَيْتَ شِعْرِي عَنْ خَلِيلٍ مَا الَّذِي ... نَمَا لَهُ فِي الْحُبِّ حَتَّى وَدَعَهُ

أَيْ تَرَكَهُ، وَقَوْلُ الْآخَرِ:

وَثَمَّ وَدَعْنَا آلَ عَمْرٍو وَعَامِرِ ... فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ

أَيْ تَرَكُوهُمْ فَرَائِسَ السُّيُوفِ.

قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَالتَّوْدِيعُ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَدْعِ ; لِأَنَّ مَنْ وَدَّعَكَ مُفَارِقًا، فَقَدْ بَالَغَ فِي تَرْكِكَ. اهـ.

وَالْقِرَاءَةُ الْأَوْلَى أَشْهَرُ وَأَوْلَى ; لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ وَدَّعَ بِمَعْنَى تَرَكَ قَلِيلٌ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ: وَدَعَ وَلَا وَذَرَ ; لِضَعْفِ الْوَاوِ إِذَا قُدِّمَتْ وَاسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِتَرَكَ، وَيَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْمُبَرِّدِ سُقُوطُ الْوَاوِ فِي الْمُضَارِعِ، فَتَقُولُ فِي مُضَارِعِ وَدَعَ يَدَعُ كَيَزِنُ وَيَهَبُ وَيَرِثُ، مِنْ وَزَنَ وَوَهَبَ وَوَرِثَ، وَتَقُولُ فِي الْأَمْرِ: دَعْ وَزِنْ، وَهَبْ، أَمَّا ذَرْ بِمَعْنَى اتْرُكْ، فَلَمْ يَأْتِ مِنْهُ الْمَاضِي، وَجَاءَ الْمُضَارِعُ: يَذَرْهُمْ، وَالْأَمْرُ: ذَرْهُمْ. فَتَرَجَّحَتْ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ: «وَدَّعَكَ» مِنَ التَّوْدِيعِ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا التَّرْجِيحَ ; لِأَنَّ وَدَّعَ بِمَعْنَى تَرَكَ فِيهَا شِدَّةٌ وَشِبْهُ جَفْوَةٍ وَقَطِيعَةٍ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ رَبِّهِ. أَمَّا الْمُوَادَعَةُ وَالْوَدَاعُ، فَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمَوَدَّةِ وَالصِّلَةِ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ عِنْدَ الِافْتِرَاقِ، فَهُوَ وَإِنْ وَادَعَهُ بِجِسْمِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوَادِعْهُ بِحُبِّهِ وَعَطْفِهِ، وَالسُّؤَالِ عَنْهُ وَهُوَ مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَلَى.

تَنْبِيهٌ.

هُنَا: «مَا وَدَّعَكَ» بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَهُوَ كَذَلِكَ لِلْمُسْتَقْبَلِ، بِدَلِيلِ الْوَاقِعِ وَبِدَلِيلِ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [٩٣ \ ٤] ; لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُوَاصَلَةِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِ، حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْآخِرَةِ فَيَجِدُهَا خَيْرًا لَهُ مِنَ الْأُولَى، فَيَكُونُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عِنَايَةِ وَرِعَايَةِ رَبِّهِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ لِعُمَرَ: «أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» ، أَيْ: تَحْتَ رَحْمَتِهِ وَفِي رِعَايَتِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>