للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَوْلُهُ: «وَمَا قَلَى» ، حَذَفَ كَافَ الْخِطَابِ لِثُبُوتِهَا فِيمَا مَعَهَا، فَدَلَّتْ عَلَيْهَا، هَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُرِكَتْ لِرَأْسِ الْآيَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ لَطِيفِ الْخِطَابِ وَرَقِيقِ الْإِينَاسِ وَمَدَاخِلِ اللُّطْفِ، أَنَّ الْمُوَادَعَةَ تُشْعِرُ بِالْوَفَاءِ وَالْوُدِّ، فَأُبْرِزَتْ فِيهَا كَافُ الْخِطَابِ، أَيْ: لَمْ تَتَأَتَّ مُوَادَعَتُكَ وَأَنْتَ الْحَبِيبُ، وَالْمُصْطَفَى الْمُقَرَّبُ.

أَمَّا: «قَلَى» : فَفِيهَا مَعْنَى الْبُغْضِ، فَلَمْ يُنَاسِبْ إِبْرَازُهَا إِمْعَانًا فِي إِبْعَادِ قَصْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ لِعَزِيزٍ عَلَيْكَ: لَقَدْ أَكْرَمْتُكَ، وَمَا أَهَنْتُ، لَقَدْ قَرَّبْتُكَ، وَمَا أَبْعَدْتُ، كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْطِقَ بِإِهَانَتِهِ وَكَرَاهِيَتِهِ، أَوْ تُصَرِّحَ بِهَا فِي حَقِّهِ، وَالْقَلَى: يُمَدُّ وَيُقْصَرُ هُوَ الْبُغْضُ، يُمَدُّ إِذَا فَتَحْتَ الْقَافَ، وَيُقْصَرُ إِذَا كَسَرْتَهَا، وَهُوَ وَاوِيٌّ وَيَائِيٌّ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:

أَيَّامُ أُمِّ الْغَمْرِ لَا نَقْلَاهَا ... وَلَوْ تَشَاءُ قَبَّلْتُ عَيْنَاهَا

وَقَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ:

أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةٌ ... لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّتِ

فَالْأَوَّلُ قَالَ: فَقَلَاهَا مِنَ الْوَاوِيِّ، وَالثَّانِي قَالَ: مَقْلِيَّةٌ مِنَ الْيَاءِ، وَهُمَا فِي اللِّسَانِ شَوَاهِدُ.

وَقَدْ جَاءَ فِي السِّيرَةِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَيُثْبِتُ دَوَامَ مُوَالَاتِهِ سُبْحَانَهُ لِحَبِيبِهِ، وَعِنَايَتِهِ بِهِ وَحِفْظِهِ لَهُ بِمَا كَانَ بُكَاؤُهُ بِهِ عَمَّهُ، وَقَدْ قَالَ عَمُّهُ فِي ذَلِكَ:

وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوسَدَ فِي التُّرَابِ دَفِينًا

وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي رِعَايَةِ عَمِّهِ لَهُ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَنَّ اللَّيْلُ وَأَرَادُوا أَنْ يَنَامُوا، تَرَكَهُ مَعَ أَوْلَادِهِ يَنَامُونَ، حَتَّى إِذَا أَخَذَ كُلٌّ مَضْجَعَهُ، عَمَدَ عَمُّهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ أَبْنَائِهِ، فَأَقَامَهُ وَأَتَى بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنَامُ مَوْضِعَهُ، وَذَهَبَ بِوَلَدِهِ يَنَامُ مَكَانَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُرِيدُ بِهِ سُوءًا فَرَأَى مَكَانَهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ مَنْ يُرِيدُهُ بِسُوءٍ وَقَعَ السُّوءُ بِابْنِهِ، وَسَلِمَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْهِجْرَةِ فِي طَرِيقِهِمَا إِلَى الْغَارِ، فَكَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَارَةً يَمْشِي أَمَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَارَةً يَمْشِي وَرَاءَهُ، فَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>