للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ يَكُونُ النَّصَبُ لِلدُّنْيَا أَوْ لِلْآخِرَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِالنَّصَبِ فِي أَيِّ شَيْءٍ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَلَكِنَّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ.

فَقِيلَ: فِي الدُّعَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ.

وَقِيلَ: فِي النَّافِلَةِ مِنَ الْفَرِيضَةِ، وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ، أَنَّهُ تَوْجِيهٌ عَامُّ لِلْأَخْذِ بِحَظِّ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا، كَمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، وَقَوْلِهِ: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [٧٣ \ ٦] ، أَيْ لِأَنَّهَا وَقْتُ الْفَرَاغِ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ وَفِي سُكُونِ اللَّيْلِ، وَقَوْلِهِ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [١١٠ \ ١ - ٣] ، فَيَكُونُ وَقْتُهُ كُلُّهُ مَشْغُولًا، إِمَّا لِلدُّنْيَا وَإِمَّا لِلدِّينِ.

وَفِي قَوْلِهِ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، حَلٌّ لِمُشْكِلَةِ الْفَرَاغِ الَّتِي شَغَلَتِ الْعَالَمَ حَيْثُ لَمْ تَتْرُكْ لِلْمُسْلِمِ فَرَاغًا فِي وَقْتِهِ ; لِأَنَّهُ إِمَّا فِي عَمَلٍ لِلدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي عَمَلٍ لِلْآخِرَةِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ مَرَّ عَلَى رَجُلَيْنِ يَتَصَارَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا بِهَذَا أُمِرْنَا بَعْدَ فَرَاغِنَا ".

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنِّي لَأَكْرَهُ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا سَبَهْلَلًا، لَا فِي عَمَلِ دُنْيَا وَلَا دِينٍ " وَلِهَذَا لَمْ يَشْكُ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ فَرَاغًا فِي الْوَقْتِ.

وَمِمَّا يُشِيرُ إِلَى وَضْعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، مَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ: " أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [٢ \ ١٥٨] ، فَمَا عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَلَّا ; لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَكَانَتْ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا.

فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّايَ، فِيمَ يُفَكِّرُ حَدِيثُ السِّنِّ، وَكَيْفَ يَسْتَشْكِلُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ، فَمِثْلُهُ لَا يُوجَدُ عِنْدَهُ فَرَاغٌ.

تَنْبِيهٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>