للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كنت أعتقد بأن النذور مسألة بعيدة عن الدين أو أنها من البدع، فما هو أصلها؟ وما موقف التشريع الإسلامي منها؟ أو كيف يتوجب على المسلم أداؤها؟]

فأجاب رحمه الله: لست أعلم ما يريد بالنذور، فأخشى أنه يريد بالنذور ما يُنذر للأموات، فإن كان يريد ذلك فإن النذور للأموات من الشرك الأكبر؛ لأن النذر خاص لله عز وجل. فإذا قال قائل: لصاحب هذا القبر عَلَّي نذر أن أذبح له، أو: لصاحب هذا القبر نذر أن أصلى له أو ما أشبه ذلك من العبادات التي تُنذر لأصحاب القبور فإن هذا بلا شك شرك مخرج عن الملة. أما إن أراد بالنذر النذر لله عز وجل فهذا فيه تفصيل كثير: إن كان النذر نذر طاعة وجب عليه الوفاء به، سواء كان النذر مطلقاً أو معلقاً بشرط. فإذا قال قائل مثلاً: لله علي نذر أن أصوم غداً وجب عليه أن يصوم ,لله علي نذر أن أصلى ركعتين وجب عليه أن يصلى ركعتين, لله علي نذر أن أحج وجب عليه أن يحج ,لله علي نذر أن أعتمر وجب عليه أن يعتمر, لله علي نذر أن أصلى في المسجد النبوي وجب عليه أن يصلى في المسجد النبوي. إلا أنه إذا نذر شيئاً فله أن ينتقل إلى ما هو خير منه: لو نذر أن يصلى في المسجد النبوي فله أن يصلى بدلاً من ذلك في المسجد الحرام؛ لأنه ثبت أن رجلاً قال يوم الفتح للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلى في بيت المقدس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلِّ ها هنا) . فأعاد عليه الرجل مرتين، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (شأنك إذاً) فهذا دليل على أنه إذا نذر شيئاً وفعل ما هو خير منه من جنسه فإنه يكون جائزاً وموفياً بنذره، هذا في نذر الطاعة، سواءً كان مطلقاً كما مثلنا أو كان معلقاً بشرط كما في هذا الحديث: إن فتح الله عليك مكة أن أصلى في بيت المقدس. ومثل النذور المعلقة أيضاً ما يفعله كثير من الناس: يكون عندهم المريض فيقول: إن شفا الله هذا المريض فلله علي نذر أن أفعل كذا وكذا من أمور الخير، فيجب عليه إذا شُفي هذا المريض أن يوفي بما نذر من طاعة الله. ومثله أيضاً ما يفعله بعض الطلبة يقول: إن نجحت فلله علي كذا من أمور الطاعة لله، علي أن أصوم ثلاثة أيام، أو عشرة أيام، أو يوم الاثنين والخميس من هذا الشهر أو ما أشبه ذلك، فكل هذا يجب الوفاء به؛ لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) . ومع هذا فإني أنصح إخواننا المسلمين أنصحهم ألا ينذروا على أنفسهم؛ لأن النذر أقل أحواله الكراهة، بل إن بعض العلماء حرمه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: (إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) . ولأن الناذر ألزم نفسه بأمر هو في عافية منه، ولأن الناذر قد يتراخى ويتساهل في الوفاء بالنذر وهذا أمر خطير، واستمعوا إلى قول الله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) . فإذا تساهل الإنسان فيما نذر لله على شرط فإنه يوشك أن يُعاقب بهذه العقوبة العظيمة: يعقبه الله نفاقاً في قلبه إلى أن يموت، نسأل الله السلامة والعافية. ثم إن النذر في هذه الحال كأن الناذر يقول: إن الله لا يعطيني ما أريد إلا إذا شرطتُ له، وهذا في الحقيقة سوء ظن بالله عز وجل، فالله تبارك وتعالى يتفضل على عباده بدون أن يشترطوا له شرطاً أو شيئاً، فأنت إذا حصل لك مكروه أو أردت مرغوباً فاسأل الله وادعه، هذه طريقة الرسل، كما قال الله تعالى عنهم، عن الذين أُصيبوا ببلاء أنهم يناجون الله عز وجل ويدعونه فيستجيب لهم: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) . وهل أيوب نذر لله نذراً إن عافاه الله؟ لا، بل دعا ربه. وهكذا أيضاً سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين: إذا أرادوا من الله ما يرغبون توجهوا إليه بالرغبة والدعاء أن يعطيهم ذلك، وإذا أرادوا من الله سبحانه وتعالى أن يصرف عنهم ما يكرهون دعوه سبحانه وتعالى ولجؤوا إليه بأن يصرف عنهم ما يكرهون، هذه سبيل المرسلين من الأولين والآخرين، آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يخرج الإنسان عن طريقتهم؟ فالمهم أننا ننصح إخواننا بالبعد عن هذا الأمر، وكثيراً ما يسأل الناس الذين نذروا، على أنفسهم نذوراً يسألون يريدون أن يجدوا من أهل العلم من يخلصهم منها فلا يجدون من يخلصهم.

***

<<  <  ج: ص:  >  >>