للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وصلتنا رسالة من المستمع م. ع. ص. من جمهورية مصر العربية يقول: ما حكم الشرع في نظركم في أعياد الميلاد والاحتفال بذكرى المولد للرسول صلى الله عليه وسلم؟ لأنها تنتشر عندنا بكثرة، أفيدونا بارك الله فيكم]

فأجاب رحمه الله تعالى: نظرنا في هذه المسألة أن نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول إلى الخلق أجمعين، وإنه يجب على جميع الخلق أن يؤمنوا به ويتبعوه، وإنه يجب علينا مع ذلك أن نحبه أعظم من محبتنا لأنفسنا ووالدينا وأولادنا؛ لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونرى أن من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وعلامة محبته أن لا نتقدم بين يديه بأمر لم يشرعه لنا؛ لأن ذلك من التقدم عليه وقد قال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ?. وإقامة عيد لميلاد النبي صلى الله عليه وسلم لا تخلو من أحوال ثلاث: إما أن يفعلها الإنسان حباً وتعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يفعلها لهواً ولعباً، وإما أن يفعلها مشابهةً للنصارى الذين يحتفلون بميلاد عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام. فعلى الأول: إذا كان يفعلها حباً وتعظيماً للرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها في هذه الحال تكون ديناً وعبادة؛ لأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه من الدين، قال الله تعالى: ?إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً? لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا?. وإذا كان ذلك من الدين فإنه لا يمكن لنا ولا يسوغ لنا أن نشرع في دين النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منه، إذ إن ذلك- أي: شرعنا في دين النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منه- يستلزم أحد أمرين باطلين: فإما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم بأن هذا من شريعته، وحينئذٍ يكون جاهلاً بالشرع الذي كلف بتبليغه، ويكون من بعده ممن أقاموا هذه الاحتفالات أعلم بدين الله من رسوله، وهذا أمر لا يمكن أن يتفوه به عاقل فضلاً عن مؤمن. وإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم، وأن هذا أمر مشروع، ولكنه كتم ذلك عن أمته، وهذا أقبح من الأول، إذ إنه يستلزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتم بعض ما أنزل الله عليه وأخفاه على الأمة، وهذا من الخيانة العظيمة، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتم شيئاً مما أنزل الله عليه. قالت عائشة رضي الله عنها: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أنزل الله عليه لكتم قول الله تعالى (وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) . وبهذا بطلت إقامة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل محبته وتعظيمه.

وأما الأمر الثاني، وهو: أن تكون إقامة هذه الاحتفالات على سبيل اللهو واللعب، فمن المعلوم أنه من أقبح الأشياء أن يفعل فعل يظهر منه إرادة تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو للعب واللهو، فإن هذا نوع من السخرية والاستهزاء، وإذا كان لهواً ولعباً فكيف يتخذ ديناً يعظم به النبي صلى الله عليه وسلم؟

وأما الأمر الثالث، وهو: أن يتخذ ذلك مضاهاة للنصارى في احتفالاتهم بميلاد عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فإن تشبهنا بالنصارى في أمر كهذا يكون حراماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم فهو منهم) . ثم نقول: إن هذا الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله الصحابة رضي الله عنهم، ولا التابعون لهم بإحسان، ولا تابعو التابعين، وإنما حدث في القرن الرابع الهجري، فأين سلف الأمة عن هذا الأمر الذي يراه فاعلوه من دين الله؟ هل هم أقل محبة وتعظيماً منا لرسول الله؟ أم هل هم أجهل منا بما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم من التعظيم والحقوق؟ أم ماذا؟ إن أي إنسان يقيم هذا الاحتفال يزعم أنه معظم للنبي صلى الله عليه وسلم فقد ادعى لنفسه أنه أشد تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوى محبة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، ولا ريب أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه إنما يكون باتباع سنته صلى الله عليه وسلم؛ لأن اتباع سنته أقوى علامة تدل على أن الإنسان يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويعظمه، أما التقدم بين يديه وإحداث شيء في دينه لم يشرعه فإن هذا لا يدل على كمال محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه. قد يقول قائل: نحن لا نقيمه إلا من باب الذكرى فقط. فنقول: يا سبحان الله! تكون لكم الذكرى في شيء لم يشرعه النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يفعله الصحابة رضي الله عنهم؟ مع أن لديكم من الذكرى ما هو قائم ثابت بإجماع المسلمين، وأعظم من هذا وأدوم: فكل المسلمين يقولون في أذان الصلوات الخمس: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وكل المسلمين يقولون في صلاتهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وكل المسلمين يقولون عند الفراغ من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. بل إن ذكرى النبي صلى الله عليه وسلم تكون في كل عبادة يفعلها المرء؛ لأن العبادة من شرطها الإخلاص والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الإنسان مستحضراً ذلك عند فعل العبادة فلا بد أن يستحضر أن النبي صلى الله عليه وسلم إمامه في هذا الفعل، وهذا تذكر. وعلى كل حال فإن فيما شرعه الله ورسوله من علامات المحبة والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كفاية عما أحدثه الناس في دينه مما لم يشرعه الله ولا رسوله، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق الجميع لما فيه الخير. على أن هذه الاحتفالات فيما نسمع يكون فيها من الغلو والإطراء ما قد يخرج الإنسان من الدين، ويكون فيها من الاختلاط بين الرجال والنساء ما تخشى منه الفتنة والفساد، والله أسأل أن يهيئ للأمة الإسلامية من أمرها رشداً، وأن يوفقها لما فيه صلاح دينها ودنياها وعزتها وكرامتها، إنه جواد كريم.

***

<<  <  ج: ص:  >  >>