للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

[القضاء بالفراسة في آراء الفقهاء]

لما كان الاستدلال بالفراسة لا يقوم على أسس واضحة ظاهرة حيث أنّ خطوات الاستنتاج فيها خفية غير معروفة لغير المتفرِّس فقد منع جمهور الفقهاء بناء الأحكام القضائية على الفراسة، وقالوا: إنها لا تصلح مستنداً للقاضي في فصل الدعوى، إذ أن القاضي لابد له من حجة ظاهرة يبني عليها حكمه.

يقول الشيخ الدردير المالكي فيما يتصف به القاضي: "فالمطلوب الدهاء ويندب ألا يكون زائدا فيه عن عادة الناس، خشية أن يحمله ذلك على الحكم بين الناس بالفراسة وترك قانون الشريعة من طلب البيّنة وتجريحها، وتعديلها، وطلب اليمين ممن وجهت إليه وغير ذلك"١.

ويقول ابن العربي المالكي: "إذا ثبت أن التوهّم والتفرّس من مدارك المعاني، ومعالم المؤمنين، فإن ذلك لا يترتب عليه حكم، ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس، فإن مدارك الأحكام معلومة شرعاً، مدركة قطعاً، وليست الفراسة منها"٢.

وجاء في تبصرة الحكّام لابن فرحون قوله: "والحكم بالفراسة مثل الحكم بالظن والحرز والتخمين، وذلك فسق وجور من الحكم، والظن يخطئ ويصيب"٣، ثم بيّن الشاطبي في كتابه الموافقات: أن الفراسة لا تصلح مستنداً للقاضي في حكمه لأن الاعتبارات الغيبية لا دخل لها في بناء الأحكام القضائية، فالرسول صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم المتفرِّسين - لم يعتبرها دليلا يعتمد عليه فقال: "إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها". فقيّد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك"٤.

كما أن صاحب (معين الحكام) الحنفي قد ذكر من القول في منع الحكم بالفراسة مثل ما قدمناه عن صاحب تبصرة الحكام، وأن الحكم بها حكم بالظن والتخمين٥.


١ الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي ٤/١٣٦.
٢ أحكام القران ٣/١١١٩.
٣ تبصرة الحكام ٢/ ١٠٤.
٤ انظر الموافقات للشاطبي ٢/ ١٨٥ والحديث رواه البخاري عن أم سلمة- رضي الله عنها- صحيح البخاري كتاب الشهادات باب "من أقام البينة بعد اليمين".
٥ معين الحكام للطرابلسي ص ٢٠٤. ط. الأميرية.

<<  <  ج: ص:  >  >>