للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

رأي ابن القيم:

خالف ابن القيم جمهور الفقهاء وذهب إلى القول بجواز الحكم بالفراسة وقال إنها مدرك صحيح للأحكام، واستخراج الحقوق وفصل الدعاوى، ومن قوله في ذلك: "ولم يزل حذّاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لم يقدّموا عليها شهادة ولا إقراراً"١.

وهو في ذلك يرى أنّ الفراسة من القرائن، ويفسِّرها بالعلامة، ويظهر ذلك من فحوى اعتراضه على تفرقة أبي الوفاء بن عقيل- أحد فقهاء الحنابلة - بين الفراسة والأمارات. قال: "وسئل أبو الوفاء بن عقيل عن هذه المسألة - أي مسألة الحكم بالقرينة والأمارات - فقال: "إن الحكم بالقرينة ليس من باب الحكم بالفراسة التي تختفي فيها خطوات الاستنتاج".

فاعترض ابن القيم قائلا: "وقول أبي الوفاء بن عقيل ليس هذا فراسة فيقال: لا محذور في تسميته فراسة، فهي فراسة صادقة، وقد مدح الله الفراسة وأهلها في مواضع كثيرة من كتابه فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وهم المتفرسون الآخذون بالسّيما وهي العلامة٢.

ومن هنا يتضح لنا أن ابن القيم لا يفرّق بين الاستدلال بالعلامات كانت هذه العلامات خفية لا تدرك إلا للمتفرسين، أم كانت ظاهرة تدرك لكل أحد، ومع أنه قد ذكر جانباً من الأمثلة التي تقدّمت عن الفراسة التي يختفي فيها طريق الاستدلال بالعلامة ويتضح فيها جانب الإلهام كتلك التي قدمناها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إلا أنه يرى أن كل ذلك استدلالا بالعلامة ويجوز بناء الأحكام القضائية عليه.

وزيادة على ذلك فقد استدل ابن القيم على القضاء بالفراسة بما كان يفعله إياس بن معاوية وشريح، إذ اشتهر عنهما ذلك، وذاع ذكاؤهما وحسن فراستهما, وقد أورد ابن القيم في الطرق الحكمية آثارا كثيرة عنهما تنم عن ذكاء وصفاء فكر وحدّة فراسة تميّزا بها في إرجاع الحقوق إلى أهلها.

تعقيب.

ومن رأينا أن الفراسة لا تصلح مستندا لحكم القاضي وفصل الدعاوى وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء خلافا لابن القيم، وذلك للأسباب التالية:


١ الطرق الحكمية ص ٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>