للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

الأول: أنه لم يرد في الشرع الحكيم ما يدل على اعتبارها والأخذ بها في القضاء، ومع أن الله عز وجل قد مدح المتفرّسين، وأنه تعالى هو الذي يفيض عليهم ويهديهم هذه المعارف التي لا يدركها غيرهم، إلا أن مدارك الأحكام القضائية معلومة شرعا، وقد وضّحها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم خير المتفرسين وأفضلهم وأعرف الناس بالناس. قال: "إنكم تختصمون إليّ.." الحديث, فلم يجعل للاعتبارات الخفية مدخلا، ولم يترك لوسائل الاستنباط غير المنضبطة والمستترة مجالا.

ثانيا: لما كانت الفراسة غير مدركة بالعين الحسية، فقد يكون الاحتجاج بها مدخلا لذوي النفوس المريضة والأغراض والدعاوى الباطلة، فيحكمون بما يوافق أهواءهم وأطماعهم مما يؤدي إلى اختلاف الأحكام وفساد القضاء.

ثالثا: إذا كنا قد وافقنا الفقهاء القائلين بعدم السماح للقاضي القضاء بعلمه لكون طريق الإثبات غير معروف لغير القاضي، فمن باب أولى ألا نوافق في القضاء بالفراسة لنفس السبب. وإن كان فساد الزمان من أسباب منع القاضي أن يقضي بعلمه فهو أيضا سبب كاف لمنع الحكم بالفراسة١.

رابعا: قول ابن القيم -رحمه الله- "إن الفراسة من الاستدلال بالعلامة" محل نظر لوجود حالات كثيرة للفراسة يختفي فيها الاستدلال بالعلامة، وفيما قدّمنا من أمثلة دليل صادق على صحة قولنا. أما الفراسة التي يكون الاستدلال فيها مبنيا على العلامة الظاهرة فحكمها ملحق بحكم العمل بالقرائن والعلامات. وهو ما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى.

أما فعل إياس بن معاوية وشريح، فقد رجعت إلى كثير من القضايا المأثورة عنهما ووجدت استدلالهم بالعلامة الظاهرة واضحا، غير أنه يظهر جليا ذكاؤهما وفراستهما في الوصول إلى هذه العلامة. ثم إن القضاة ليسوا كإياس وشريح حتى يسيروا سيرهما. كما أنّ جمهور الفقهاء لا يتفق معهم على الأخذ بمنهجهما في القضاء.

وعلى هذا أرى أن الفراسة لا تصلح أن تكون طريقاً من طرق الإثبات في الفقه الإسلامي.


١ يراجع مقالنا في العدد (٦٠) من هذه المجلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>