للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

الناس تعارفوا عليه واتفق مع حاجاتهم ومصالحهم، فقد راعى الشارع الحكيم عرف العرب ففرض الدية على العاقلة واعتبر العصبية في الإرث ولهذا يقول الحنفية: "المعروف عُرفاً كالمشروط شرطاً" و"الثابت بالعرف كالثابت بالنص", وقد غيّر الإمام الشافعي- رحمه الله - بعض أحكام مذهبه بعد أن ذهب إلى مصر لاختلاف أعرافهم عن أعراف أهل العراق١.

ويظهر ارتباط القرينة بالعرف في صور يشكل فيها العرف قرائن تجب مراعاتها وملاحظتها، مثال ذلك: لقد تعارف الناس على البيع بالتعاطي وهو التبادل بين المتعاوضين من غير لفظ، فهذا عرف وهو في نفس الوقت قرينة دالة على رضا الطرفين بالبيع، وقد استجاب الفقهاء لمتطلبات العرف وتحرّروا بموجب هذه القرينة عن التقيُّد بشكلية اللفظ.

ومن أظهر الصور التي جعلوا فيها العرف قرينة تجب مراعاتها في فهم الدعوى مسألة تنازع الزوجين في متاع البيت, وفى هذا يقول القرافي المالكي: "إنّ الإشهاد بين الزوجين يتعذر لأنهما لو اعتمدا ذلك، وأن من كان له شيء أشهد عليه أدى إلى المنافرة وعدم الوداد بينهما، وربما أفضى إلى الطلاق والقطيعة, فهما معذوران في عدم الإشهاد وملجآن إليه، وإذا الجاَ لعدم إشهاد فلو لم يقض بينهما بالعادة لانسد الباب بينهما"٢.

ومن ذلك أيضا قولهم: إن الزوجين إذا اختلفا في قدر المعجل والمؤجل في المهر ولا بينة لأحدهما فالقول لمن شهد له العرف٣.

يستفاد من هذا أن العرف قد يكون قرينة تدل على ما يطلب معرفته فلذلك كان لابد من ملاحظته ومعرفته عند نظر الدعوى, لأجل هذا فقد نبّه الفقهاء على القاضي بالتعرف على أحوال الناس وعاداتهم وما تواضعوا عليه لأنه بذلك تتبين له الدعوى ويعرف المحق من المبطل. ومن يرجع إلى ابن القيم في كتابيه الطرق الحكمية وأعلام الموقعين، وابن فرحون في تبصرته، والطرابلسي في كتابه معين الأحكام، لوجد ما فيه الكفاية من حث القاضي على معرفة العرف. ثم إن الفقيه الحنفي ابن عابدين قد ألف رسالة في هذا الشأن أسماها "نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العُرف"٤


١ الأشباه والنظائر لابن القيم وشرح الجموي على الأشباه ١/ ١٢٦, وانظر علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع الإسلامي للمرحوم عبد الوهاب حلاف ص ٩٧.
٢ ١لفروق ٣/ ١٤٩.
٣ الاختيار لتعليل المختار ٢/١٧٧.
٤ رسائل ابن عابدين ٢/١٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>