للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذا حكما مستقرا ثابتا إلى أن نسخ إيجابه بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، أو يكون نزول الجميع معا، فإن كان كذلك فليس جائزا أن يكون المراد بالكتابة والإشهاد الإيجاب لامتناع ورود الناسخ والمنسوخ معا في شيء واحد، إذ غير جائز نسخ الحكم قبل استقراره.

ولماّ لم يثبت تاريخ نزول هذين الحكمين- الأمر بالكتابة والإشهاد- وقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وجب الحكم بورودهما معا، فلم يرد الأمر بالكتابة والإشهاد إلا مقرونا بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} فثبت بذلك أن الأمر بالكتابة ليس للوجوب إنما هو للندب أي تندب الكتابة.

أما قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الآية محكمة ولم ينسخ منها شيء"، فلا دلالة فيه على أنه يرى وجوب الكتابة والإشهاد إنما يريد أن الجميع قد ورد معا ونسق التلاوة يقتضي أن يكون ذلك مندوبا وهو ورود قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} .

وكذلك ما روي عن أبي موسى: ثلاثة لا يستجاب لهم من له على رجل دين فلم يشهد عليه، فلا دلالة فيه أيضا على وجوب الكتابة والإشهاد لأنه قد ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ولا خلاف في أن ذلك ليس بواجب، بل يقال أنه تارك للاحتياط والتوصل إلى ما جعل الله له فيه المخرج والخلاص.

ويؤيد صحة مذهب الجمهور في ندب الكتابة وعدم الوجوب أنه لم تنقل إلينا كتابة الصحابة والتابعين وسلف الأمة لديونهم أوبيوعهم أو عقودهم مع حاجتهم لها، لم ينقل نكيرهم أو اعتراضهم على من ترك الكتابة، فلو كانت الكتابة واجبة لنقل ذلك نقلا مستفيضا ولتواتر إنكارهم على تاركها. فدل عدم النقل وعدم إظهار النكير على أن آية الكتابة ليست واجبة إنما ورد الأمر في هذه الآية للندب والاحتياط حتى لا يقع جحود أو نسيان١.


١ أحكام القرآن للجصاص ١/ ٤٨٢، تفسير القرطبي ٣/٣٨٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>