للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بسم الله الرحمن الرحيم

[تمهيد]

المعجزة الكبرى

١- يسير الكون على سنن قد سنَّت، ونظمٍ قد أُحكِمَت، وارتباطٍ بين الأسباب والمسببّات العادية لا يتخلَّف، وإن تخلَّفت المسببات عن أسبابها ووجدت الأمور منفكة عن علتها، كالولد يولد من غير أبٍ، وكالحركة تجيء من جامد لا يتحرَّك كعصا،، ونار تنطفئ وقد أوقدت، إذا كان ذلك الانقطاع بين الأسباب العادية ومسبباتها حكم العقل بأن الذي فعل ذلك فوق الأسباب العادية ومسبباتها، ولو ساير العقل منطقه إلى أقصى مداه "وليس بعيدًا في حكم المنطق العقلي المستقيم الذي يصل إلى المدى من أقرَّ به"، فإنَّه لا بُدَّ واصل إلى أن الذي خرق العادات وخالف أساببها ومسبباتها لا بُدَّ أن يكون خالقها وموجدها، وإذا كان القصور العقلي لا يصل إلى هذه الغاية، فإنه لا بُدَّ واصل إلى أن خرق هذه العادات، لا بُدَّ أن يكون لغاية، وأنَّه إذا وجدت هذه الغاية وبينت مقاصدها، وعلم أنَّ ذلك الخرق لهذه الغاية تبين معه صدق ما يدعى، وأنه يعلم من وراء ذلك الخالق الحكيم، المسيطر على كل شيء، الذي يفعل ما يرد، ولا يقيده نظام خلقه، ولا عادات أوجدها.

لذلك كان الأمر الخارق للعادة حجة الصدق لمن يدَّعي أنه يتكلم عن الخالق الحكيم الفعَّال لما يريد؛ لأنه لا يغير العادات سواه، وإن الصادق يعلن دعواه، ويقيم ذلك برهانًا عليها، ويتحدَّى الناس أن يفعلوا مثلها، ويسمَّى في هذا الحال أنه معجزة.

ولذلك عرفوها بأنها: المرّ الخارق للعادة الذي يدَّعي به من جرى على يديه أن نبي من عند الله تعالى، ويتحداهم أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين، وأن المعجزة المادية تتحدَّى بنفسها مع ادِّعَاء الرسالة، فإن النار لا تنطفئ من تلقاء نفسها؛ إذ يلقى فيها إبراهيم -عليه السلام- فتكون بردًا وسلامًا عليه فلا يحترق، وكالعصا التي تتحرك وتتلوَّى كأنها ثعبان مبين، وليست سحرًا كما أدرك الساحرون، وكانوا أول المؤمنين، وكإبراء عيسى للأكمه والأبرص بإذن الله، وكإحيائه الموتى بإذن الله، فما كان له أن يطلب منهم أن يأتوا بمثلها، والقصور بَيِّن والعجز واضح، ومع ذلك فالتحدي قائم، والعجز ثابت، والحجة قائمة، وكان عليهم أن يؤمنوا بالحق إذا جاءهم.

<<  <   >  >>