للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مداها وَدِينَارَهَا وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا وَعُدْتُمْ كَمَا بَدَأْتُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هريرة رضى الله تعالى عنه وَدَمُهُ

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ لَيْسَ بِصَغَارٍ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ لَهُمْ مِلْكَ أَرْضِ الْخَرَاجِ الَّتِي عَلَيْهَا قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهَا لَذَكَرَهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مَنْعِهِمْ لِحَقِّ اللَّهِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عُدْتُمْ كَمَا بَدَأْتُمْ يَعْنِي فِي مَنْعِ حَقِّ اللَّهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى مِثْلُ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ لَا عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْإِسْلَامَ يسقط جزية الرءوس ولا يسقط عن الْأَرْضِ فَلَوْ كَانَ صَغَارًا لَأَسْقَطَهُ الْإِسْلَامُ فَإِنْ قيل لما كان خراج الأرضين فيا وَكَذَلِكَ جِزْيَةُ الرُّءُوسِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَغَارٌ قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ الْفَيْءِ مَا يُصْرَفُ إلَى الْغَانِمِينَ وَمِنْهُ مَا يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَهُوَ الْخُمُسُ وَهَذَا كَلَامٌ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُصْرَفُ فِيهِ وَلَيْسَ يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ صَغَارًا لِأَنَّ الصَّغَارَ فِي الْفَيْءِ هُوَ مَا يُبْتَدَأُ بِهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فَأَمَّا مَا قَدْ وَجَبَ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْحَقِّ ثُمَّ مَلَكَهَا مُسْلِمٌ فَإِنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ لَهُ لَا يُزِيلُهُ إذْ كَانَ وُجُوبُهُ فيها متقدم لِمِلْكِهِ وَهُوَ حَقٌّ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ تَكُنْ الجزية صغارا من حيث كانت فيا وإنما كَانَتْ عُقُوبَةً وَلَيْسَ خَرَاجُ الْأَرَضِينَ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَرْضَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ يَجِبُ فِيهِمَا الْخَرَاجُ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمَا الْجِزْيَةُ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةٌ وَخَرَاجُ الْأَرَضِينَ لَيْسَ كَذَلِكَ.

(فَصْلٌ) إنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُلْحِدِينَ كَيْفَ جَازَ إقْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ بَدَلًا مِنْ الْإِسْلَامِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ رِضًا بِكُفْرِهِمْ وَلَا إبَاحَةً لِبَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ وَإِنَّمَا الْجِزْيَةُ عُقُوبَةٌ لَهُمْ لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَتَبْقِيَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْجِزْيَةِ كَهِيَ لَوْ تَرَكْنَاهُمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ إذْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ إيجَابُ قَتْلِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يُبْقِيَ اللَّهُ كَافِرًا طَرْفَةَ عَيْنٍ فَإِذَا بَقَّاهُمْ لِعُقُوبَةٍ يُعَاقِبُهُمْ بِهَا مَعَ التَّبْقِيَةِ اسْتِدْعَاءً لَهُمْ إلَى التَّوْبَةِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَاسْتِمَالَةً لَهُمْ إلَى الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا إمْهَالُهُ إيَّاهُمْ إذْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مِنْ نَسْلِهِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الْمَصْلَحَةِ مَعَ مَا للمسلمين فيها من المرفق وَالْمَنْفَعَةِ فَلَيْسَ إذًا فِي إقْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَتَرْكِ قَتْلِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ مَا يُوجِبُ الرِّضَا بِكُفْرِهِمْ وَلَا الْإِبَاحَةَ لِاعْتِقَادِهِمْ وَشِرْكِهِمْ فَكَذَلِكَ إمْهَالُهُمْ بِالْجِزْيَةِ جَائِزٌ فِي الْعَقْلِ إذْ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ تَعْجِيلِ بَعْضِ عِقَابِهِمْ الْمُسْتَحَقِّ بِكُفْرِهِمْ وَهُوَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>