للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّكُمْ قَدْ صَدَقْتُمْ عَنْ أَنْفُسِكُمْ

فَامْضُوا حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى فِيكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَمْرِهِمْ التَّشْدِيدَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُمْ وَأَنْ يَأْمُرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُكَلِّمُوهُمْ فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ نَحْوَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى رَدِّ تَوْبَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالتَّوْبَةِ وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ لَا تُقْبَلَ تَوْبَةُ مَنْ يَتُوبُ فِي وَقْتِ التَّوْبَةِ إذَا فَعَلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ تَشْدِيدَ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِمْ فِي تَأْخِيرِ إنْزَالِ تَوْبَتِهِمْ وَنَهْي النَّاسَ عَنْ كَلَامِهِمْ وَأَرَادَ بِهِ اسْتِصْلَاحَهُمْ وَاسْتِصْلَاحَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَعُودُوا وَلَا غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى مِثْلِهِ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِمْ بِمَوْضِعِ الِاسْتِصْلَاحِ وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَوْضِعُ اسْتِصْلَاحٍ بِذَلِكَ فَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ أَمْرَ النَّاسِ بِتَرْكِ كَلَامِهِمْ وَتَأْخِيرَ إنْزَالِ تَوْبَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ عُقُوبَةً وَإِنَّمَا كَانَ مِحْنَةً وَتَشْدِيدًا فِي أَمْرِ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ وَهُوَ مِثْلُ ما نقوله فِي إيجَابِ الْحَدِّ الْوَاجِبِ عَلَى التَّائِبِ مِمَّا قَارَبَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ مِحْنَةٌ وَتَعَبُّدٌ وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ الْوَاجِبُ بِالْفِعْلِ بَدِيًّا كَأَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ قَوْله تَعَالَى حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بما رحبت يعنى مع سعتها وضاقت عليهم أنفسهم يَعْنِي ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ بِالْهَمِّ الَّذِي حَصَلَ فِيهَا مِنْ تَأْخِيرِ نُزُولِ تَوْبَتِهِمْ وَمِنْ تَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ كَلَامَهُمْ وَمُعَامَلَتَهُمْ وَأَمْرِ أَزْوَاجِهِمْ بِاعْتِزَالِهِمْ قَوْله تَعَالَى وَظَنُّوا أَنْ لا ملجأ من الله إلا إليه يَعْنِي أَنَّهُمْ أَيْقَنُوا أَنْ لَا مَخْلَصَ لَهُمْ وَلَا مُعْتَصَمَ فِي طَلَبِ الْفَرَجِ مِمَّا هُمْ فِيهِ إلَّا إلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا ذلك إلا من قبله الْعِبَادَةِ لَهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ فَحِينَئِذٍ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ وَكَذَلِكَ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَنْ انْقَطَعَ إلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا كَاشِفَ لِهَمِّهِ غَيْرُهُ أَنَّهُ سَيُنَجِّيهِ وَيَكْشِفُ عَنْهُ غَمَّهُ وَكَذَلِكَ حَكَى جَلَّ وَعَلَا عَنْ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وقال هذا يوم عصيب- إلَى أَنْ قَالَ- لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قوة أو آوى إلى ركن شديد فَتَبَرَّأَ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَمِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِينَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ مَا هُوَ فِيهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى حِينَئِذٍ جَاءَهُ الْفَرَجُ فَقَالُوا إِنَّا رُسُلُ ربك لن يصلوا إليك وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مخرجا وَمَنْ يَنْوِ الِانْقِطَاعَ إلَيْهِ وَقَطْعَ الْعَلَائِقِ دُونَهُ فَمَتَى صَارَ الْعَبْدُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ إحْدَى مَنْزِلَتَيْنِ إمَّا أَنْ يُخَلِّصَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ وَيُنْجِيَهُ كَمَا حُكِيَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ بَلْوَاهُمْ مِثْلُ قَوْلِ أَيُّوبَ

<<  <  ج: ص:  >  >>