للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَنِيفاً

أي ملة الإِسلام التي هي في الأصل ملة إبراهيم، أو مثل ملته حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة لتسوية الأغراض الدنيوية، وألزمتكم تحريم طيبات أحلها الله لإِبراهيم ومن تبعه. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فيه إشارة إلى أن اتباعه واجب في التوحيد الصرف والاستقامة في الدين والتجنب عن الإِفراط والتفريط، وتعريض بشرك اليهود.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٦]]

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦)

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي وضع للعبادة وجعل متعبداً لهم، والواضع هو الله تعالى. ويدل عليه أنه قرئ على البناء للفاعل. لَلَّذِي بِبَكَّةَ للبيت الذي بِبَكَّةَ، وهي لغة في مكة كالنبيط والنميط، وأمر راتب وراتم ولازب ولازم، وقيل هي موضع المسجد. ومكة البلد من بكة إذا زحمه، أو من بكه إذا دقه فإنها تبك أعناق الجبابرة

روي (أنه عليه السلام سئل عن أول بيت وضع للناس فقال: المسجد الحرام، ثم بيت المقدس. وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة)

. وقيل أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم، ثم العمالقة، ثم قريش. وقيل هو أول بيت بناه آدم فانطمس في الطوفان، ثم بناه إبراهيم. وقيل: كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح يطوف به الملائكة، فلما أهبط آدم أمر بأن يحجه ويطوف حوله ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات وهو لا يلائم ظاهر الآية. وقيل المراد إنه أول بيت بالشرف لا بالزمان. مُبارَكاً كثير الخير والنفع لمن حجه واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله، حال من المستكن في الظرف وَهُدىً لِلْعالَمِينَ لأنه قبلتهم ومتعبدهم، ولأن فيه آيات عجيبة كما قال:

[[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٧]]

فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)

فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار، وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرض لها، وإن كل جبار قصده بسوء قهره الله كأصحاب الفيل. والجملة مفسرة للهدى، أو حال أخرى. مَقامُ إِبْراهِيمَ مبتدأ محذوف خبره أي منها مقام إبراهيم، أو بدل من آيات بدل البعض من الكل. وقيل عطف بيان على أن المراد بالآيات أثر القدم في الصخرة الصماء وغوصها فيها إلى الكعبين، وتخصيصها بهذه الإلانة من بين الصخار وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة. ويؤيده أنه قرئ «آية» بينة على التوحيد. وسبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه. وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً جملة ابتدائية، أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي ومنها أمن من دخله، أو فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله. اقتصر بذكرهما من الآيات الكثيرة وطوى ذكر غيرهما

كقوله عليه السلام «حبب إليَّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة»

لأن فيها غنية عن غيرها في الدارين بقاء الأثر مدى الدهر والأمن من العذاب يوم القيامة،

قال عليه السلام: «من مات في أحد الحرمين، بعث يوم القيامة آمناً»

. وعند أبي حنيفة من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما والتجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولكن ألجئ إلى الخروج. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قصده للزيارة على الوجه المخصوص. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص حِجُّ بالكسر وهو لغة نجد. مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بدل من الناس بدل البعض من الكل مخصص له، وقد فسر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاستطاعة «بالزاد والراحلة» وهو يؤيد قول الشافعي رضي الله تعالى عنه إنها بالمال، ولذلك أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه. وقال مالك رحمه الله تعالى إنها بالبدن فيجب على من قدر على المشي والكسب في الطريق. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إنها

<<  <  ج: ص:  >  >>