للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا الذي يحاسبهم يوم القيامة يعلم الأعين الخائنة التي تسرق النظر إلى المحرم وتختلسه اختلاسا حتى لا يشعر بها أحد من الجالسين، ويعلم ما تخفيه الصدور من الرغبات والحاجات والنوايا، والإنسان يصدر عنه عمل نفسي قلبي أو عمل بالجوارح، فإذا كان الله يعلم أدق شيء عن جوارح الإنسان وهو النظر خلسة فمن باب أولى أن يعلم اليد التي تبطش والرجل التي تسير واللسان الذي يتكلم، ويعلم كذلك خطرات القلوب وما تخفيه الصدور وهو يعلم السر وأخفى، ويا ويلنا إذا كان يحاسبنا وهو من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور!! والله يقضى بالحق، لا ظلم اليوم، فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتى بها الله وكفى به خير الحاسبين.

والذين يدعونهم من دونه لا يقضون بشيء، وكيف يقضون، وهم لا يعلمون شيئا، إن الله هو السميع لكل قول، والعليم بكل فعل، وسيجازى على ذلك كله.

نرى أن القرآن ملأ قلوبهم خوفا ورعبا من ذلك اليوم لو كانوا يعقلون، فذرك أنه قريب، وأن القلوب تنخلع فيه لهول ما ترى، وأن المجرمين لا يستطيعون الكلام مع امتلاء قلوبهم غيظا، وليس لهم صديق ولا حميم ولا شفيع يطاع، والحاكم يومئذ عالم بكل شيء لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وهو يقضى بالحق فلا محاباة عنده، وهؤلاء الأصنام لا تنفع عنده بشيء، وهو وحده السميع البصير.

ولما بالغ الحق- تبارك وتعالى- في تخويفهم من يوم القيامة أردفه بإنذارهم وتخويفهم في الدنيا، وبيان ما عمله الله مع من كفر وعذب الرسل السابقين لعلهم يتعظون فقال ما معناه:

أغفلوا ولم يسيروا «١» في الأرض التي هي حولهم وفي طريقهم فينظروا نظرة اعتبار وموعظة ما حل بالأمم السابقة لما كذبت رسلهم كعاد وثمود وغيرهما، وهؤلاء السابقون كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، وقد مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وقد أثاروا الأرض وزرعوها، وأصبحت لهم مدن وحضارة، وزراعة وصناعة ولكنهم


(١) الاستفهام إنكارى، و (كيف) خبر مقدم لكان، و (عاقبة) اسمها، والجملة من كان واسمها وخبرها في محل نصب على المفعول لينظروا، وقوله تعالى: (كانوا هم أشد منهم قوة) جواب (كيف) .

<<  <  ج: ص:  >  >>