للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الإمام الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما ذكر في الآية المتقدمة ما يدل على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين. ذكر في هذه الآية أنه- تعالى- نهى عن سلوك سبيلهم فقال: إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله، وبين أن الذين يعبدونها إنما يعبدونها بناء على محض الهوى والتقليد لا على سبيل الحجة والدليل، لأنها جمادات وأحجار وهي أخس مرتبة من الإنسان بكثير. وكون الأشرف مشتغلا بعبادة الأخس أمر يدفعه صريح العقل، وأيضا فالقوم كانوا ينحتون تلك الأصنام ويركبونها، ومن المعلوم بالبديهة أنه يقبح من هذا العامل الصانع أن يعبد معموله ومصنوعه، فثبت أن عبادتها مبنية على الهوى ومضادة للهدى» «١» .

والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك أن تركن إليهم: إن الله نهاني وصرفني بفضله، وبما منحني من عقل مفكر عن عبادة الآلهة التي تعبدونها من دون الله، وقل- أيضا- لهم بكل صراحة وقوة: إنى لست متبعا لما تمليه عليكم أهواؤكم وشهواتكم من انقياد للأباطيل، ولو أنى ركنت إليكم لضللت عن الحق وكنت خارجا عن طائفة المهتدين.

فالآية الكريمة قطعت بكل حسم ووضوح أطماعهم الفارغة في استمالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهوائهم، ووصمتهم بأنهم في الضلال غارقون، وعن الهدى مبتعدون.

وجاءت كلمة نُهِيتُ بالبناء للمجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهوره أى: نهاني الله- تعالى- عن ذلك. وأجرى على الأصنام اسم الموصول الموضوع للعقلاء لأنهم عاملوهم معاملة العقلاء فأتى لهم بما يحكى اعتقادهم.

قال أبو حيان: و «تدعون» معناه تعبدون: وقيل معناه تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيدا أى سميته بهذا الإسم. وقيل تدعون في أموركم وحوائجكم وفي قوله تدعون من دون الله استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة، ولفظة نهيت أبلغ من النفي بلا أعبد إذ ورد فيه ورود تكليف» «٢» .

وجملة قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ مستأنفة، وعدل بها عن العطف إلى الاستئناف لتكون غرضا مستقلا، وأعيد الأمر بالقول زيادة في الاهتمام بالاستئناف واستقلاله ليكون هذا النفي شاملا للاتباع في عبادة الأصنام وفي غيرها من ألوان ضلالهم كطلبهم طرد المؤمنين من مجلسه، وعبر بقوله قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ دون لا أتبعكم. للإشارة إلى أنهم في عبادتهم لغير الله تابعون


(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥٤ طبعة المطبعة الشرفية ١٣٢٤.
(٢) البحر المحيط لأبى حيان ج ٤ ص ١٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>