للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما الذين أضمروا فذكروا وجوها:

الأول: كأنه قال: ومثل من يدعو الذين كفروا إلى الحق كمثل الذي ينعق، فصار الناعق الذي هو الراعي بمنزلة الداعي إلى الحق. وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم وسائر الدعاة إلى الحق، وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها، ووجه الشبه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تفهم المراد، وهؤلاء الكفار كانوا يسمعون صوت الرسول صلّى الله عليه وسلّم وألفاظه، وما كانوا ينتفعون بها وبمعانيها.

الثاني: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع كالغنم وما يجرى مجراها من البهائم. فشبه الأصنام- في أنها لا تفهم- بهذه البهائم، فإذا كان ولا شك أن من دعا بهيمة عد جاهلا، فمن دعا حجرا أولى بالذم.

والفرق بين هذا القول والذي قبله أن ها هنا المحذوف هو المدعو، وفي القول الذي قبله المحذوف هو الداعي.

أما إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار فتقديره، ومثل الذين كفروا في قلة عقولهم في عبادتهم لهذه الأوثان كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم، فكما أنه يقضى على ذلك الراعي بقلة العقل فكذا هاهنا.

ثم قال- رحمه الله- ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرا لقلبه، وتضييقا لصدره، حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد» «١» .

وقوله- تعالى-: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ زيادة في تبكيتهم وتقريعهم، أى: هم صم عن استماع دعوة الحق، بكم عن إجابة الداعي إليها، عمى عن آيات صدقها وصحتها، فهم لإعراضهم عن الهادي لهم إلى ما ينفعهم وينجيهم من العذاب صاروا بمنزلة من فقد حواسه، فأصبح لا يسمع ولا ينطق ولا يبصر وقوله: فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ وارد مورد النتيجة بعد البرهان، بجانب كونه توبيخا لهم، لأنهم بفقدهم أهم طرق الإدراك وهما السمع والبصر، وأهم وسيلة للثقافة وهي استطاع الحقائق من طريق المحاورة والتكلم، صاروا بعد كل ذلك بمنزلة من فقد عقله الاكتسابى، فأصبح لا يفقه شيئا لأن العقل الذي يكتسب به الإنسان المعارف والحقائق يستعين استعانة كبرى بهذه الحواس الثلاث.


(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٨ بتصرف وتلخيص.

<<  <  ج: ص:  >  >>