للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الإمام الرازي: اعلم أن تعلق هذه الآية- وهي قوله- ومن أهل الكتاب ... بما قبلها من وجهين:

الأول: أنه- تعالى- حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم ادعوا أنهم أوتوا من المناصب الدينية ما لم يؤت أحد غيرهم مثله، ثم إنه- تعالى- بين أن الخيانة مستقبحة عند جميع أرباب الأديان وهم مصرون عليها فدل هذا على كذبهم.

والثاني: أنه- تعالى- لما حكى عنهم في الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا (لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) حكى في هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس، وهو إصرارهم على الخيانة والظلم وأخذ أموال الناس في القليل والكثير.

قال ابن عباس: أودع رجل عند عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداها إليه.

وأودع رجل آخر عند فنحاص بن عازوراء اليهودي دينارا فخانه فنزلت الآية «١» .

والمعنى: إن من أهل الكتاب فريقا إن تأتمنه على الكثير والنفيس من الأموال يؤده إليك عند طلبه كاملا غير منقوص، وإن منهم فريقا آخر إن تأتمنه على القليل والحقير من حطام الدنيا يستحله ويجحده ولا يؤديه إليك إلا إذا داوم صاحب الحق على المطالبة بحقه واستعمل كل الوسائل في الحصول عليه.

فالآية الكريمة قد مدحت من يستحق المدح من أهل الكتاب وهو الفريق الذي استجاب للحق وآمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كعبد الله بن سلام وأمثاله من مؤمنى أهل الكتاب. وذمت من يستحق الذم منهم وهو الفريق الذي لا يؤدى الأمانة، ولم يستجب للحق، بل استمر على كفره وجحوده، وهذا القسم يمثل أكثرية أهل الكتاب.

والمراد من ذكر القنطار والدينار هنا العدد الكثير والعدد القليل. أى أن منهم من هو في غاية الأمانة حتى أنه لو اؤتمن على الأموال الكثيرة لأداها، ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى أنه لو أؤتمن على الشيء القليل لجحده.

وقوله إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً استثناء من أعم الأحوال أو الأوقات. أى لا يؤده إليك في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا في حال أو في وقت مداومتك على طلبه، والإلحاح في ذلك، واستعمال كل الوسائل للوصول إلى حقك.

قال الجمل: و «دمت» هذه هي الناقصة، ترفع وتنصب، وشرط إعمالها أن يتقدمها ما الظرفية كهذه الآية: إذ التقدير إلا مدة دوامك. وأصل هذه المادة للدلالة على الثبوت والسكون. يقال: دام الماء، أى سكن. وفي الحديث: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم» أى


(١) تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ١٠٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>