للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالتَّعْرِيضِ لِلشَّهَادَةِ، وَإِعْلَامًا أَنْ لَا مَفَرَّ مِمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا «١» وَاحْتِجَاجًا عَلَى الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى بِإِنْبَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَا يَدْفَعُونَ صِحَّتَهُ، مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا، وَلَمْ يُدَارِسْ أَحَدًا، وَعَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِذْ مَنْ قَرَأَ الْكُتُبَ يُصَدِّقُهُ فِي إِخْبَارِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِمَّا هُوَ فِي كُتُبِهِمْ.

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أَكَّدَ هذه الجملة: بإن، وَاللَّامِ، وَأَتَى الْخَبَرُ: لَذُو، الدَّالَّةُ عَلَى الشَّرَفِ، بِخِلَافِ صَاحِبٍ، وَ: النَّاسِ، هُنَا عَامٌّ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لِلَّهِ عَلَيْهِ فَضْلٌ أَيُّ فَضْلٍ، وَخُصُوصًا هُنَا، حَيْثُ نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا بِهِ يَسْتَبْصِرُونَ وَيَعْتَبِرُونَ عَلَى النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ عَقْلًا، كَائِنَةٌ بِإِخْبَارِهِ تَعَالَى: إِذْ أَعَادَ إِلَى الْأَجْسَامِ الْبَالِيَةِ الْمُشَاهَدَةِ بِالْعَيْنِ الْأَرْوَاحَ الْمُفَارِقَةَ، وَأَبْقَاهَا فِيهَا الْأَزْمَانَ الطَّوِيلَةَ إِلَى أَنْ قَبَضَهَا ثَانِيَةً، وَأَيُّ فَضْلٍ أَجَلُّ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ، إِذْ تَتَضَمَّنُ جَمِيعَ كُلِّيَّاتِ الْعَقَائِدِ الْمُنْجِيَةِ وَجُزْئِيَّاتِهَا: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: بالناس، هاهنا الْخُصُوصُ، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ فَفَرُّوا مِنْهُ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ، فَأَمَاتَهُمْ، ثُمَّ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْإِحْيَاءِ وَطَوَّلَ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ لِيَسْتَيْقِنُوا أن لا مفر من الْقَدَرِ، وَيَسْتَدْرِكُوا مَا فَاتَهُمْ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ لَا نَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ بَلْ نَمْتَثِلُ مَا يَأْمُرُ بِهِ تَعَالَى.

وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ تَقَدَّمَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ بِالْإِيجَادِ وَالرِّزْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى ذلك، وهذا الاستدراك:

بلكن، مِمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ: فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى فَضْلِهِ، فَاسْتَدْرَكَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّاكِرَ قَلِيلٌ، كَقَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «٢» وَيَخُصُّ: النَّاسِ، الثَّانِي بِالْمُكَلَّفِينَ.

وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَذَا خِطَابٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَتْ تِلْكَ الْقِصَّةُ، كَمَا قُلْنَا، تَنْبِيهًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ لَا تَفِرَّ مِنَ الْمَوْتِ كَفِرَارِ أُولَئِكَ، وَتَشْجِيعًا لَهَا، وَتَثْبِيتًا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهُ أَمْرٌ لِمَنْ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ بِالْجِهَادِ، أَيْ: وَقَالَ لَهُمْ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا وَجْهَ لِهَذَا الْقَوْلِ. انْتَهَى.

وَالَّذِي يَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ملتحمة بقوله:


(١) سورة التوبة: ٩/ ٥١.
(٢) سورة سبأ: ٣٤/ ١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>