للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ «١» وَيَكُونُ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ وَحْدَهَا وَهِيَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ.

وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ الْحَجَرُ الْمَعْرُوفُ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْبَيْتُ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُ بَنَاهُ، وَقَامَ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَكَّةُ كُلُّهَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ.

وَقَالَ قَوْمٌ: الْحَرَمُ كُلُّهُ. وَالْحَرَمُ مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةَ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ إِلَى مُنْتَهَى التَّنْعِيمِ، وَمِمَّا يَلِي الْعِرَاقَ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ يُقَالُ لَهُ الْمَقْطَعُ، وَمِمَّا يَلِي عَرَفَةَ تِسْعَةُ أَمْيَالٍ إِلَى مُنْتَهَى الْحُدَيْبِيَةِ.

وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً: الضَّمِيرُ فِي «وَمَنْ دَخَلَهُ» عَائِدٌ عَلَى الْبَيْتِ: إِذْ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ، وَالْمُقَيَّدُ بِتِلْكَ الْقُيُودِ مِنَ الْبَرَكَةِ وَالْهُدَى وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ.

وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ إِذَا فَسَّرْنَاهُ بِالْحَجَرِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ مُفَسِّرَةٌ لِبَعْضِ آيَاتِ الْبَيْتِ، وَمُذَكِّرَةٌ لِلْعَرَبِ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنِ احْتِرَامِ هَذَا الْبَيْتِ، وَأَمْنِ مَنْ دَخَلَهُ مِنْ ذَوِي الْجَرَائِمِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ يُغِيرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ بِالْقَتْلِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَأَنْوَاعِ الظُّلْمِ، إِلَّا فِي الْحَرَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ «٢» وَذَلِكَ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً «٣» فَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَمَنْ أَصَابَ حَدًّا فَإِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُهُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ: عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. فَمَنْ زَنَى، أَوْ سَرَقَ، أَوْ قَتَلَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاسْتَحْسَنَ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ: أَنْ يَخْرُجَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ إِلَى الْحِلِّ فَيُقْتَلَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا وَاسْتَجَارَ بِالْبَيْتِ فَهُوَ آمِنٌ. وَالْأَمْرُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَا يَعْرِضُ أَحَدٌ لِقَاتِلِ وَلِيِّهِ. إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُبَايِعُوهُ، وَلَا يُكَلِّمُوهُ، وَلَا يؤوه حَتَّى يَتَبَرَّمَ فَيَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَقَالَ بِمِثْلِ هَذَا عَطَاءٌ أَيْضًا، وَالشَّعْبِيُّ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُهُمْ إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ قَالُوا: هَذَا فِيمَنْ يُقْتَلُ خَارِجَ الْحَرَمِ ثُمَّ يَعُوذُ بِالْحَرَمِ، أَمَّا مَنْ قُتِلَ فِيهِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِيهِ.

وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ: إِذَا جَنَى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَيْهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَأَحْمَدٌ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنْهُ: إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ فِي النَّفْسِ


(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٥٢- ٥٣.
(٢) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٦٧.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٢٦. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>