للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اتَّقَى اللَّهَ وَامْتَثَلَ أَمْرَهُ فِي مَا أَحَبَّ، وَفِي مَا كَانَ شَاقًّا مِنْ قِتَالٍ وَغَيْرِهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ: وَلَا يُظْلَمُونَ بِالْيَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ أَيْ:

لَا تُنْقَصُونَ مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِكُمْ وَمَشَاقِّ التَّكَالِيفِ أَدْنَى شَيْءٍ، فَلَا تَرْغَبُوا عَنِ الْأَجْرِ.

أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أَيْ: هَذَا التَّأَخُّرُ الَّذِي سَأَلُوهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا مُنْجِيَ مِنَ الْمَوْتِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِقَتْلٍ أَمْ بِغَيْرِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي خَوَرِ الطَّبْعِ وَحُبِّ الْحَيَاةِ. وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَحْتَ مَعْمُولِ قُلْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ مُسْتَأْنَفًا بِأَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ أَحَدٌ. وَالْبُرُوجُ هُنَا الْقُصُورُ فِي الْأَرْضِ، قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالْجُمْهُورُ. أَوِ الْقُصُورُ مِنْ حَدِيدٍ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوْ قُصُورٌ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ قَالَهُ: السُّدِّيُّ. أَوِ الْحُصُونُ وَالْآكَامُ وَالْقِلَاعُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوِ الْبُيُوتُ الَّتِي تَكُونُ فَوْقَ الْحُصُونِ قَالَهُ: بَعْضُهُمْ. أَوْ بُرُوجُ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُ الْقَمَرِ قَالَهُ: الربيع أنس، وَالثَّوْرِيُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ: أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:

وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ «١» وَجَعَلَ فِيهَا بُرُوجًا وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً «٢» وَقَالَ زُهَيْرٌ:

وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنِيَةِ يَلْقَهَا ... وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ

مُشَيَّدَةٌ مُطَوَّلَةٌ قَالَهُ: أَبُو مَالِكٍ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالزَّجَّاجُ. أَوِ مَطْلِيَّةٌ بِالشِّيدِ قَالَهُ:

أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. أَوْ حَصِينَةٌ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا بُرُوجٌ فِي السَّمَاءِ فَلِأَنَّهَا بِيضٌ شَبَّهَهَا بِالْمِبْيَضِ بِالشِّيدِ، وَلِهَذَا قَالَ الَّذِي هِيَ قُصُورٌ بِيضٌ فِي السَّمَاءِ مَبْنِيَّةٌ.

وَالْجَزْمُ فِي يُدْرِكْكُمْ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَأَيْنَمَا تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: فِي أَيِّ مَكَانٍ تَكُونُونَ فِيهِ أَدْرَكَكُمُ الْمَوْتُ. وَلَوْ هُنَا بِمَعْنَى إِنْ، وَجَاءَتْ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ النَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ بِتَقْدِيرِ: إِنْ لَوْ كَانُوا فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، وَلِإِظْهَارِ اسْتِقْصَاءِ الْعُمُومِ فِي أَيْنَمَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ: يُدْرِكُكُمْ بِرَفْعِ الْكَافَيْنِ، وَخَرَّجَهُ أَبُو الْفَتْحِ: عَلَى حَذْفِ فَاءِ الْجَوَابِ أَيْ:

فَيُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: حُمِلَ عَلَى مَا يَقَعُ مَوْقِعَ أَيْنَمَا تَكُونُوا، وَهُوَ: أَيْنَمَا كُنْتُمْ كَمَا حُمِلَ وَلَا نَاعِبَ عَلَى مَا يَقَعُ مَوْقِعَ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ، وَهُوَ لَيْسُوا بِمُصْلِحِينَ. فَرُفِعَ كَمَا رَفَعَ زُهَيْرٌ يَقُولُ: لَا غَائِبَ مَا لِي وَلَا حَرَمٌ. وَهُوَ قَوْلُ نَحْوِيٍّ سِيبَوَيْهِيٍّ انْتَهَى. وَيَعْنِي: أَنَّهُ جَعَلَ يُدْرِكُكُمُ ارْتَفَعَ لِكَوْنِ أَيْنَمَا تَكُونُوا فِي مَعْنَى أَيْنَمَا كنتم،


(١) سورة البروج: ٨٥/ ١.
(٢) سورة الحجر: ٩٥/ ١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>