للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ مُحَابَاةِ نَفْسِهِ وَمُرَاعَاتِهَا، نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي الِاسْتِقْصَاءِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ وَالْفَصَاحَةِ. فَبَدَأَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَعَزُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَالِدَيْنِ وَهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ وَسَبَبُ نَشْأَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِبِرِّهِمَا وَتَعْظِيمِهِمَا، وَالْحَوْطَةِ لَهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَقْرَبِينَ وَهُمْ مَظِنَّةُ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعَصُّبِ. وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ أُمِرَ فِي حَقِّهِمْ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، فَالْأَجْنَبِيُّ أَحْرَى بِذَلِكَ. وَالْآيَةُ تَعَرَّضَتْ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الشَّهَادَةِ لَهُمْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَلَوْ شَرْطِيَّةٌ بِمَعْنَى: إِنْ وَقَوْلُهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَإِنْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَكُونُوا شُهَدَاءَ لِلَّهِ، هَذَا تَقْرِيرُ الْكَلَامِ. وَحَذْفُ كَانَ بَعْدَ لَوْ كَثِيرٌ تَقُولُ: ائْتِنِي بِتَمْرٍ وَلَوْ حَشَفًا، أَيْ:

وَإِنْ كَانَ التَّمْرُ حَشَفًا فَائْتِنِي بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِشُهَدَاءَ. فَإِنْ عَنَى شُهَدَاءَ هَذَا الْمَلْفُوظَ بِهِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، وَإِنْ عَنَى الَّذِي قَدَّرْنَاهُ نَحْنُ فَيَصِحُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ آبَائِكُمْ أَوْ أَقَارِبِكُمْ.

(فَإِنْ قُلْتَ) : الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى وَالِدِي كَذَا وَعَلَى أَقَارِبِي، فَمَا مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ؟ (قُلْتُ) : هِيَ الْإِقْرَارُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِإِلْزَامِ الْحَقِّ لَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ وَبَالًا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، أَوْ عَلَى آبَائِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ، وَذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَنْ تَوَقَّعَ ضَرَرَهُ مِنْ سُلْطَانٍ ظَالِمٍ أَوْ غَيْرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَقْدِيرُهُ: وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْمَحْذُوفَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَلْفُوظِ بِهِ قَبْلُ لِيَدُلَّ عَلَيْهِ. فَإِذَا قُلْتَ: كُنْ مُحْسِنًا لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَتُحْذَفُ كَانَ وَاسْمُهَا وَالْخَبَرُ، وَيَبْقَى مُتَعَلِّقُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَلَا تُقَدِّرُهُ: وَلَوْ كَانَ إِحْسَانُكَ لِمَنْ أَسَاءَ. فَلَوْ قُلْتَ: لِيَكُنْ مِنْكَ إِحْسَانٌ وَلَوْ لِمَنْ أَسَاءَ، فَتُقَدِّرُ: وَلَوْ كَانَ الْإِحْسَانُ لِمَنْ أَسَاءَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَدَّرْتَهُ. وَلَوْ كُنْتَ مُحْسِنًا لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ لَمْ يَكُنْ جَيِّدًا، لِأَنَّكَ تَحْذِفُ مَا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ مُطَابِقٍ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ وَبَالًا عَلَى أَنْفُسِكُمْ هَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ كَوْنٌ مُقَيَّدٌ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْكَوْنِ الْمُقَيَّدِ، لَوْ قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ فِيكَ وَأَنْتَ تُرِيدُ مُحِبًّا فِيكَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ مُحِبًّا مُقَيَّدٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْكَوْنِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ: تَقْدِيرٌ كَائِنٌ أَوْ مُسْتَقِرٌّ.

إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أَيْ إِنْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ غَنِيًّا فَلَا تَمْتَنِعُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ لِغِنَاهُ، أَوْ فَقِيرًا فَلَا تَمْنَعْهَا تَرَحُّمًا عَلَيْهِ وَإِشْفَاقًا. فَعَلَى هَذَا الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّ العطف هو بأو، وَلَا يُثَنَّى الضَّمِيرُ إِذَا عُطِفَ بِهَا، بَلْ يُفْرَدُ. وَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ: فَلْيَشْهَدْ

<<  <  ج: ص:  >  >>