للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفَسَّرُوا هَذَا الْقَوْلَ بِقَوْلِهِمْ: وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ عَنَى بِهِ قَوْلَهُمْ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ لِأَنَّهُ هُوَ الصَّرِيحُ فِي إِيمَانِهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:

لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِإِيمَانِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ إِنْكَارٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ مَعَ قِيَامِ مُوجِبِهِ، فَلَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْإِثَابَةُ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ فَآتاهُمُ مِنَ الْإِيتَاءِ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ لَا مِنَ الْإِثَابَةِ، وَالْإِثَابَةُ أَبْلَغُ مِنَ الْإِعْطَاءِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَنْ عَمَلٍ بِخِلَافِ الْإِعْطَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَنْ عَمَلٍ وَلِذَلِكَ جَاءَ أَخِيرًا وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْإِثَابَةَ هِيَ جَزَاءٌ، وَالْجَزَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ عَمَلٍ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ انْدَرَجَ فِي الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ لَمَّا ذَكَرَ مَا لِلْمُؤْمِنِ ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلْكَافِرِ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ذَكَرُوا سَبَبَ نُزُولِهَا فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مُلَخَّصُهَا إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ عَزَمُوا عَلَى التَّقَشُّفِ الْمُفْرِطِ وَالْعِبَادَةِ الْمُفْرِطَةِ الدَّائِمَةِ مِنَ الصِّيَامِ الدَّائِمِ وَتَرْكِ إِتْيَانِ النِّسَاءِ وَاللَّحْمِ وَالْوَدَكِ وَالطَّيِّبِ وَلُبْسِ الْمُسُوحِ وَالسِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ وَجَبِّ الْمَذَاكِيرِ، فَنَهَاهُمُ الرَّسُولُ عَنْ ذَلِكَ وَنَزَلَتْ.

وَقِيلَ: حَرَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَشَاهُ لَيْلَةَ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ لِكَوْنِ امْرَأَتِهِ انْتَظَرَتْهُ وَلَمْ تُبَادِرْ إِلَى إِطْعَامِ ضَيْفِهِ، فَحَرَّمَتْهُ هِيَ إِنْ لَمْ يَذُقْهُ، فَحَرَّمَهُ الضَّيْفُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَرِّبِي طَعَامَكِ، كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ، فَأَكَلُوا جَمِيعًا وَأَخْبَرَ الرَّسُولَ بِذَلِكَ، فَقَالَ «أَحْسَنْتَ» .

وَقِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا غَيْرُ ذَلِكَ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَدَحَ النَّصَارَى بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَعَادَتُهُمُ الِاحْتِرَازُ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَمُسْتَلَذَّاتِهَا أَوْهَمَ ذَلِكَ تَرْغِيبَ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ التَّقَشُّفِ وَالتَّبَتُّلِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا رَهْبَانِيَّةَ فِيهِ،

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَآتِي النِّسَاءَ وَأَنَالُ الطَّيِّبَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»

وَأَكَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَاجَ وَالْفَالُوذَجَ وَكَانَ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَى وَالْعَسَلُ وَالطَّيِّبَاتُ هُنَا الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْحَلَالِ وَمَعْنَى لَا تُحَرِّمُوهَا لَا تَمْنَعُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْهَا لِمَنْعِ التَّحْرِيمِ وَلَا تَقُولُوا حَرَّمْنَاهَا عَلَى أَنْفُسِنَا مُبَالَغَةً مِنْكُمْ فِي الْعَزْمِ عَلَى تَرْكِهَا تَزَهُّدًا مِنْكُمْ وَتَقَشُّفًا، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِسَبَبِ النُّزُولِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>